أخر الاخبار

المنهج الموضوعاتي في العالم العربي.




أ - إرهاصات المنهج الموضوعاتي في العالم العربي :

يرجع بعض الباحثين في هذا المبحث إرهاصات ظهور المنهج الموضوعاتي الى نهايات القرن التاسع عشر وهو الوقت الذي استوى فيه المنهج على عوده وبرز فيه رواد كبار وقذ كان هذا الظهور في رحاب الجامعة عبر أطاريح ورسائل جامعية توسلت المنهج الموضوعاتي وأعلنت عنه بشكل واضح وهي ثلاث رسائل جامعية الأولى لكيتي سالم عن موضوعة (القلق عند كي دي موباسان)، والثانية لعبد الكريم حسن تحت عنوان (الموضوعية البنيوية في شعر السياب) والثالثة لكليطو تحت عنوان (موضوعاتية القدر في روايات فرانسوا مورياك) وعلى رأسهم سعيد علوش الذي يقول : " يظهر أن النقد الموضوعاتي- في العالم العربي- اختار ظهوره في أحضان الجامعة، من خلال رسائل جامعية، نوقشت اثنتان منهما بالسوربون في فترتين متقاربتين، الأولى دكتوراه للسلك الثالث، والثانية دكتوراه دولة، والثالثة بكلية آداب الرباط. كانت الرسالة الأولى لكيتي سالم أخت الروائي السوري جورج سالم وتحت إشراف ج.ب.ريشار عن موضوعة (القلق عند كي دي موباسان) (1982)، والثانية لعبد الكريم حسن، تحت إشراف أندري ميكايل وغريماس، تحت عنوان (الموضوعية البنيوية في شعر السياب) (1983)، وقد ظهرت الرسالة الأخيرة بالعربية، بينما تظل الأولى في الأصل الفرنسي غير مطبوعة، وكذلك الشأن بالنسبة للرسالة الثالثة لكليطو تحت عنوان (موضوعاتية القدر في روايات فرانسوا مورياك) (1971)"[1].

وهناك من الباحثين من يختلف مع هذا الطرح ويذهب الى أن بدايات ظهور المنهج سابقة على ذلك بكثير معتمدا في ذلك على الطريقة الي اشتغل بها النقاد في مقاربتهم للنصوص الأدبية ومدى قربها من المنهج الموضوعاتي وعلى رأسهم حميد الحمداني الذي يقول : " وإذا كانت قيمة كتاب علي الراعي : دراسات في الرواية المصرية تعود بالدرجة الأولى الى تاريخ صدوره المبكر (1964)، وقد سار الناقد في الدراسة على نفس خطوات التلخيص والمقارنة وإثارة القضايا والموضوعات وفق خطة ذاتية تؤكد حرية التعامل مع النص بشتى الوسائل الممكنة، يقودها الذوق أساسا"[2] وقد خالفه على هذا الرأي أيضا يوسف وغليسي معقبا على أن كتاب علي الراعي (1964) دراسة موضوعاتية قائلا : " من الطريف هنا أن كثيرا من أقطاب هذا المنهج في الغرب لم يكونوا قد ولدوا بعد خلال تلك الفترة المذكورة"[3].

أما بالنسبة لنا فرأي حميد الحمداني الأقرب الى الصواب والمنطق من وجوه عدة فأولا لا يعني أن ظهور منهج من المناهج في مكان معين دليل على عدم وجود إرهاصات له في مكان آخر بشكل عام أو في العالم العربي بشكل خاص والدليل على ذلك كما أوضح حميد الحمداني هو وجود عدة دراسات نقدية سابقة اهتمت بموضوعات معينة في الأعمال الأدبية للشاعر أو روائي معين وهذا لب هذا المنهج حتى وإن اختلفت مقارباته من ناقد الى آخر كما أن طريقة تطور المنهج من مرحلة بسيطة وغير واضحة الى أخرى مركبة ومكتملة  تعتبر طريقة طبيعية تدل بقوة على أن هذا المنهج له تاريخ وهذا ما أكده حميد الحمداني وهذا أقرب الى الحقيقة من قول أن المنهج عبارة عن نسخ ونقل كلي للنسخة الأصلية من المنهج دون أن يكون له بداية أو تاريخ في موطنه الأصلي، ثانيا لقد سبق وأشرنا الى أن الموضوعاتية تقوم على أسس فلسفية كما باقي المناهج النقدية وعلى رأسها الفلسفة الظاهراتية والفلسفة الوجودية والميراث الرومانسي والبنيوية والتحليل النفسي ولا شك أن هذه الفلسفات كانت كلها سابقة على المنهج الموضوعاتي وكان العالم العربي على علم ودراية بها وإذا كانت هذه الفلسفات مقدمة وموجهة للظهور هذا المنهج في الغرب فإنها كذلك ساهمت في ظهور المنهج الموضوعاتي في العالم العربي بشكل طبيعي، كما أن القول بأن المنهج الموضوعاتي وليد المدرسة الغربية وفقط هو قول يرسخ المركزية الغربية للفكر والثقافة والأدب هذه الرؤية التي أصبحت متجاوزة مع ما يسمى بالدراسات الأدبية الما بعد كولونيالية.    

ü   الموضوعاتية وغياب النظام :

يذهب بعض النقاد الى أن إرهاصات المنهج الموضوعاتي في الابداعات الأدبية وبشكل خاص الرواية لم تظهر فجأة وإنما تطورت شيئا فشيئا وأن أغلب الأعمال الأدبية النقدية لم تعلن بشكل وواضح وصريح بتوجه منهجي أو تصور منهجي يقطع الشك والخلاف بل على العكس من ذلك اعتمد النقاد في كثير من الأعمال على إثارة مواضيع وقضايا مختلفة وذات طابع عام لعمل أو أعمال مبدع معين أو مجموعة من المبدعين مع الانفتاح والاغتراف من مناهج أخرى وفي أحيان كثيرة إعتماد ما يسمى بالمنهج التكاملي أي التماس أكثر من منهج من أجل العمل النقدي داخل هذا التوجه الموضوعاتي، وإذا كان هذا الأمر حاضر بقوة في الرواية فإنه أقل حدة في الأعمال الشعرية وبشكل خاص في بداية ظهور هذا النقد الموضوعاتي بشكل رسمي وواضح في الساحة العربية من خلال اعتماد المقاربة النقديةالغربية وكذا محاولة تبيئتها في مكان غير مكانها الأصلي من قبيل العمل الذي قام به عبد الكريم حسن تحت عنوان الموضوعية البنيوية دراسة في شعر السياب، يقول حميد الحمداني : " يمكن القول بأن معظم الكتب العربية التي مارست نقدا روائيا يغلب فيه التوجه الموضوعاتي، تخلى أصحابها عن وضع مقدمات منهجية يحددون فيها تصورهم النظري. وإذا ما حدث أن كتبوا مقدمة أو مدخلا، فإنهم يعالجون فيهما قضايا عامة لا ترتبط بالضرورة بما يمكن اعتباره تصورا منهجيا. وفي بعض الحالات تناقش مسألة المنهج، ولكن الاختيار ينتهي بشكل عام الى عدم التقيد بأي منهج محدد، غير أن الاستقراء العام لشكل الممارسة النقدية فيها ينبئ عن طبيعة الاختيارات المنهجية الكامنة وراءها، وهي اختيارات تكون في الغالب معاكسة لأي تصور أو وحدة نظرية، مما يجعلنا نصنفها في إطار المعالجة النقدية الموضوعاتية بالمعنى الفضفاض. هذا بخلاف قليل من كتب نقد الشعر؛ فقد نشر عبد الكريم حسن دراسة تحمل عنوان : الموضوعية البنيوية دراسة في شعر السياب، كما وضع مقدمة منهجية حدد فيها بعض تصوراته الخاصة"[4].

ومن النماذج الممثلة لهذا التوجه علي الراعي الذي تم ذكره سابقا من خلال كتابه دراسات في الرواية المصرية والذي سلك فيه طريقة التلخيص والمقارنة بين الموضوعات من داخل العمل الأدبي أو من الخارج عبر أعمال أخرى لنفس الروائي وإثارة الموضوعات والقضايا المتباينة والتعليق عليها دون الإفصاح عن تصوره النقدي في مقدمة الكتاب وما كان ينقص هذا الناقد بحسب غالي شكري سوى استثمار المقارنة الى أبعد حد باعتبار أن المقارنة آلية من الآليات الأساسية لهذا المنهج في الكشف عن الموضوعات والعلاقات التي تربط بينها، إضافة الى غياب النظام الموحد والرؤية الشاملة لهذا المنهج بحيث أنه من شروط كمال المنهج أن يتضمن نظاما داخليا يحقق الانسجام والتناغم داخل عناصره ومكوناته وما ساعد على هذا أيضا أن الكتاب صدر على شكل مقالات في أوقات متباعدة ما جعل الرؤية الشاملة ووحدة التصور تخفى عن الكتاب يقول حميد الحمداني : " لاحظ الناقد المصري غالي شكري كيف أن علي الراعي اهتم بالمقارنة بصورة متميزة، إلا أنه لم يستثمرها الى مداها البعيد، فلو أن المؤلف قد عمد الى المقارنة الموضوعية لرأى سيلا منهمرا من القضايا تطرق باب بحثه بعنف، والمقارنة comparaison تمثل بالنسبة للنقد الموضوعاتي وسيلة لتوسيع مجال التأمل، واكتشاف العلاقات بين الصيغ التيماتية في أعمال أدبية متباينة. ونضيف الى ذلك حاجة الدراسة أيضا الى نظام موحد يجمع كل مقالات الكتاب حول رؤية موضوعاتية واحدة، وهو ما لم يكن حاصلا، لأن الكتاب لم ينجز في أصله دفعة واحدة، فالمقالات التي يضمها كتبت كما قال الناقد نفسه بين سنتي 1956-1962"[5]

ü   الموضوعاتية وتشكل النظام :

بعد النماذج التي وقفنا معها والتي تجسد بشكل واضح المنهج الموضوعاتي في مرحلة غياب النظام حيث كان الاهتمام بالموضوع والقضية أو المشكلة واضح للعيان إلا أن هذا الاهتمام غلبت عليه التعددية في الطرح أي الاهتمام بأكثر من قضية وموضوع في دراسة واحدة  سنحاول الآن التعرف على بعض الدراسات النقدية التي توسلت الوضوح المنهجي والرؤية الشمولية والبعد النسقي ورسمت لنفسها وللمنهج رؤية نقدية عربية خاصة بها ومن أهم هذه الدراسات دراسات غالي شكري من خلال مؤلفاته المنتمي دراسة في أدب نجيب محفوظ والرواية العربية في رحلة العذاب، العنقاء الجديدة، صراع الأجيال في الادب المعاصر وتتضح معالم نقده من خلال ما صرح به بأن طريقته في النقد منذ بداية ممارسته هي الاهتمام بقضية معينة سواء المتعلقة بمبدع معين أم المتعلقة بمجموعة من المبدعين وتغليب المضمون على الشكل وكذا بالتحرر من الالتزام بأي منهجية واحدة والسير عليها في جميع الأعمال وبعبارة أخرى عدم فرض أي منهج نقدي واحد على جميع الأعمال الأدبية وترك ملامح المنهج تتشكل بحسب كل عمل أدبي وبحسب كل موضوع أو قضية إضافة الى استثمار المناهج النقدية الأخرى وقد كان التوفيق بين الاستفادة من باقي المناهج النقدية والإخلاص للموضوعاتية يشكل التحدي الأساس لكل ناقد موضوعاتي يقول حميد الحمداني : " على أننا نجد في بعض مؤلفات غالي شكري الأخرى ما يؤكد توجهه إلى النقد الموضوعاتي بشكل يكاد يكون صريحا. ففي مقدمة كتابه :" العنقاء الجديدة، صراع الأجيال في الادب المعاصر" إشارة بالغة الأهمية يقول فيها : وقد دأبت منذ بداية حياتي الأدبية تقريبا على أن أختار قضية ما : أناقشها أحيانا من خلال كاتب واحد، (كنجيب محفوظ أو توفيق الحكيم أو سلامة موسى) أو عدة أدباء، (كأزمة الجنس في القصة العربية، وشعرنا الحديث إلى أين، وأدب المقاومة، والتراث والثورة) أو مرحلة تاريخية (كمذكرات ثقافة تحتضر، وثقافتنا بين نعم ولا وذكريات الجيل الضائع) وهكذا، كانت القضية ولا تزال هي التي تعنيني، ما يجعلنا نراه دائما في الاتجاه المعاكس لإقرار أية نظرية نقدية محددة الى أن يتحول الموضوع ذاته بين يديه الى مولد لأدوات نقده الخاصة، دون أن يمنع ذلك في الوقت ذاته من الاستفادة الحرة من شتى الخلفيات المنهجية والنظرية. وهذه عي المفارقة الأساسية المميزة لممارسة التحليل الموضوعاتي سواء في الغرب أم في العالم العربي"[6].

ومن النماذج التي يمكن تصنيفها في نفس الاتجاه الموضوعاتي بعض دراسات جورج طرابيشي في بداية مشواره من قبيل بحثه المعنون ب (الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية) والذي يتضح لنا من خلال عنوانه بأنه دراسة لموضوع الله من خلال مجموعة من الأعمال الروائية للكاتب نجيب محفوظالذي إضافة الى اهتمامه وانطلاقه في الدراسة من الموضوع الواحد فإنه لم يغفل استثمار المناهج الأخرى" [7]

ومن الدراسات التي شقت طريقا مغايرا لما سبق دراسة سمر روحي الفيصل المطولة تحت عنوان ملامح في الرواية السورية والذي أشار في مقدمة كتابه الى ما سماه المنهج التفسيري (méthode explicative) وهو المنهج الذي خلص اليه خلدون الشمعة من خلال معايشته وتشبعه للثقافة الأنجلوسكسونية، والذي يستدعي من الناقد إعادة بناء رؤية المبدع وتجربته الأدبية والفنية من خلال النص وحده وهنا يظهر التوجه البنيوي لهذا الطرحأو ما يطلق عليه بالبنيوية الموضوعاتية وهو توجه كان سائدا في المدرسة الغربية والذي من أهم أركانه دراسة العمل الأدبي من الداخل دون الاستعانة بمعطيات خارجة عنه"[8].

ب-عبد الكريم حسن وتجربته النقدية :

ü   التجربة النقدية:

يعتبر عبد الكريم حسن من أهم النقاد الموضوعاتيين في العالم العربي فهو من التلاميذ المباشرين لجان بيار ريشار أحد أكبر رواد المنهج في الغرب والذي أخذ عنه أساسيات المنهج كما تأثر به تأثرا بالغا تجلى في دراساته من قبيل المنهج الموضوعي نظرية وتطبيق، الموضوعية البنيوية في شعر السياب (1983) وغيرهما لما رأى فيها من خصوبة ونضج وتماسك في الطرح يقول عبد الكريم حسن في مقدمة كتابه واصفا تجربة أستاذه جان بيار ريشار: " وإنما نحصر عملنا في إطار التجربة النقدية الريشارية لأنها تبدو لنا الأكثر خصوبة وتماسكا وتطورا في ميدان النقد الموضوعي"[9]، و بعد أن رأينا بعض النماذج الروائية التي تجسد لنا ملامح وخصائص ونظام المنهج الموضوعي في العالم العربي سنحاول في هذه السطور أن نوضح واحدة من التجارب النقدية الناجحة على مستوى الابداع الشعري من خلال التطرق لدراسته الموضوعية البنيوية في شعر السياب (1983) لما تتميز به هذه الأخيرة من قيمة علمية وأدبية ونوعية :

أولا وقبل كل شيء تعتبر هذه الدراسة الأولى في العالم العربي من حيث تشرب المنهج الموضوعاتي من مدرسته الأم ونقصد بذلك المدرسة الغربية من خلال اعتماد أفكار غاستون باشلار جان بيار ريشار وجون بول ويبر وغيرهم أساسا وقاعدة ومنطلقا للفعل النقدي. 

ثانيا، كان هذا العمل الأدبي هو الأول من نوعه في تنزيل الموضوعاتية الى مرتبة منهج مخالفا في ذلك أستاذه جان بيار ريشار الذي كان يطلق عليه المقاربة المنهجية ولم يرفعه الى درجة المنهج وفي هذا الادعاء مغامرة كبرى بحسب النقاد يقول سعيد علوش: " والمتتبع لكلام عبد الكريم حسن يفهم أنه يتضمن نوع من التبشيرية بمناهج، وكان الأولى الكلام عن مقاربات، لأن ج.ب.ريشار لم يرفع في يوم ما علم منهج محدد، على غرار البنيوية والشكلانية، "[10] وفي هذا القول رفعلسقف تطلعات الباحثين والنقاد.

ثالثا، حاولت تجربة الباحث المزج بين الشعري والموضوعاتي وبعبارة أخرى تطبيق المنهج الموضوعي على الشعر الحر والذي حقق بذلك الريادة في الساحة الأدبية الغربية والعربية.

رابعا، لقد حاول الباحث المزج بين منهجي الموضوعاتية والبنيوية وإن كان سبقه الى ذلك جان بول سارتر في دراسة لرواية جون دوس باسوس مركزا على الأبعاد الدلالية [11] وهما منهجان يظهران الى حد كبير غير منسجمين باعتبار أن الموضوعاتية تنفتح بشكل كبير على المناهج السياقية كالمنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي في حين أن المنهج البنيوي منهج نسقي إلا أن تجربته هذه كانت تجربة خاصة ولذلك أطلق عليها النقاد الموضوعاتية المعجمية تمييزا لها عن الموضوعاتية الأدبية وعن غيرها من التوجهات الموضوعاتية.

ويتلخص منهج عبد الكريم حسن في ما يلي : البحث في المواضيع التي تطرق لها العمل الأدبي بشكل مبعثر في النص ثم تحديدها وتنظيمها، وهنا يتضح الجانب الموضوعي في منهجه، وكذا البحث عن البنى الداخلية التي تحكم هذه الموضوعات فيما بينها من خلال كشف شبكة العلاقات التي تربط بينها وهنا يبرز الجانب البنيوي في منهجه، والموضوع بحسب عبد الكريم حسن يقوم على قاعدة لغوية وليس على أساس الدراسة والتحليل والقاعدة اللغوية تتمثل في العائلة اللغوية حيث العلاقة بين المفردات تكون إما لغوية جذرية أو معنوية، بمعنى أن تكون العلاقة بين الألفاظ جذر لغوي أو تكون العلاقة بين الألفاظ علاقة معنى يقول عبد الكريم حسن : " منهجنا موضوعي بمعنى أنه بحث في الموضوع، وهو بحث يهدف الى اكتشاف السجل الكامل للموضوعات الشعرية في كل مرحلة من المراحل الشعرية عند السياب، ومنهجنا بنيوي بمعنى أنه يكتشف البنية التي تتشابك فيها هذه الموضوعات الشعرية. وهذا المنهج وإن كان منتزعا من دراسة الشعر السيابي، إلا أنه يصلح في رأينا لدراسة الموضوع في كافة الفنون الأدبية وأنواع العمل الأدبي ولكن، ماهو الموضوع؟ إن تحديدنا للموضوع يعتمد على قاعدته اللغوية «Substrat Lexical» في العمل الأدبي الذي ندرسه، وليس على دراسة هذا العمل الأدبي أو تحليله، فالموضوع هو مجموعة من المفردات التي تنتمي الى عائلة لغوية واحدة"[12]

وبعد أن اتضحت الملامح النقدية لعبد الكريم حسن والتي خلص إليها من خلال دراسته للشعر السياب قال بإمكانية تعميم هذا المنهج على باقي الفنون والأنواع الأدبية وهذه دعوة جريئة والأولى به أن يطلق على ما سماه منهج مقاربة كما أطلق عليها أستاذه جان بيار ريشار

أما فيما يخص الجانب الإجرائي للمنهج عند الكريم حسن يتضح بشكل موجز في الخطوات التالية إحصاء مفردات النص/ تحديد الموضوع الرئيسي/ تحليل المفردات/ تحديد الموضوعات الفرعية ويشكل الإحصاء الشامل لمفردات النص خطوة أساسية ومحورية في أي دراسة نقدية يقول سعيد علوش : " فالعمليات الأساسية في القراءة الموضوعاتية، كما يتصورها عبد الكريم حسن تتلخص في الجرد/ تحديد الموضوع الرئيسي/ تحليل المفردات/ الموضوعات الفرعية"[13] وبعد جرد وإحصاء مفردات النص يظهر للباحث الموضوع الرئيسيالذي يكشف بدوره من خلال آطرادية وتواتر مفردات داخل قضايا ومقولات معينة الى موضوعات أخرى يطلق عليها بالموضوعات الفرعية التي تساهم في تشكيل الموضوع المهيمن وقد يكون هذا التواتر والإطرادية كميا ونوعيا فأما كميا فيعني تفوق الموضوع على باقي المواضيع من حيث عدد المفردات التي يشملها أما نوعيا فيعني تفوق الموضوع من خلال الأهمية التي أولتها له الدراسة والتحليل الأدبي مثل أن يحتل قيمته الأدبية من خلال المجاز والرمز والصور البلاغية يقول الباحث : "لدى دراسة الموضوع الرئيسي، يلاحظ الناقد أن مفرداته تعبر عن أفكار وقضايا متعددة، وإلحاح الموضوع الرئيسي على قضايا بعينها هو الذي يحدد الموضوعات الفرعية، وتظهر أهمية هذا الإلحاح كميا ونوعيا"[14].

ü   المآخذ على تجربة عبد الكريم حسن :


لقد كانت تجربة عبد الكريم حسن في الجمع بين منهجي الموضوعاتية والبنيوية دراسة جريئة ورائدة بلا شك الا أنها تعرضت للكثير من المآخذ والانتقادات ومن أهمها القول بأن دراسة الباحث للشعر السياب دراسة تفصل منهجيا بين هذا الأخير وبين إرهاصات المنهج الموضوعي في العالم العربي وذلك بسبب اعتماده في منهجه على مقاربة جان بيار ريشار وإغفاله كل التجارب النقدية ذات التوجه الموضوعاتي في الساحة العربية والتي أشرنا إليها سابقا كما يعتبر طرحه هذا بمثابة اجتثاث المادة الأدبية قيد الدرس والتي هي شعر السياب من بيئتها الثقافية العربية وإقحامها في بيئة ثقافية غريبة عنها والتي هي الثقافة الغربية الفرنسية ونقصد بشكل خاص المنهج المتوسل يقول سعيد علوش في هذا الصدد : " بيد أن افتقاد العمل للخلفية الفكرية الموضوعاتية يقطعها أولا عن إرهاصاتها في العالم العربي، كما يجعلها حركة تفتقد قواعدها المعرفية بعزلها في دائرة مغلقة، لا هي ترتبط بنتائج حقلها المعرفي الفرنسي ولاهي تدعم وشائجها بالرصيد الثقافي العربي"[15]

ومن المآخذ أيضا القول بأن محاولة التوفيق بين منهجين متعارضين محاولة بائت بالفشل ذلك أن المنهج الموضوعي منفتح بطبيعته على مجموعة من المناهج من بينها المنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي وهذه المناهج كلها مناهج سياقية أي أنها تتوسل معطيات خارجة عن العمل الأدبي من أجل العمل النقدي من قبيل حياة الكاتب النفسية وكذا السياق التاريخي للعمل الأدبي وغيرهما في حين أن المنهج البنيوي منهج نسقي يدرس النص من الداخل دون تجاوزه وهنا يظهر تحدي الجمع بينهما إذ يظهر من خلال التعريف الموجز لهما أنهما متعارضان ولا يمكن الجمع بينهما إلا أن هذا التعارض لا يمنع من التقاء المنهجين ذلك أن كل منهما يهتم بدراسة النص الأدبي من الداخل بحيث أن الموضوعية هي بحث في موضوعات الإبداع الأدبي والبنيوية بحث في البنى الداخلية للنص وهنا يظهر القاسم المشترك بينهما نعود الى فكرة وجود التعارض بين الطرفين ونقول بأن هذا ما سقط فيه عبد الكريم حسن بحسب النقاد من خلال قوله في مقدمة دراسته بأن الجانب التاريخي يساهم بقوة في فهم القصيدة وهو أيضا ما خالفه بشكل أو بآخر في معرض آخر من حديثه سواء كان على المستوى النظري أم التطبيقي، ومن النقاد الذين قالوا بهذا الرأي أحمد يوسف واصفا منهجه بالتناقض وعدم الصلابة والخلط، قالت كريمة زيتوني: وهذا ما يجعل من دراسته هذه متوزعة بين النسق والسياق فمن جهة يلجأ إلى أدوات التحليل النفسي التي يستخدمها جل النقاد الموضوعاتيين، وكذلك الشأن بالنسبة للتحليل التاريخي. ويتجلى ذلك في قوله : " إن الجانب التاريخي الذي يضيء كثيرا في فهم القصيدة، لا يمكن أن يكتشف بشيء من الثقة إلا من خلال وضع القصيدة في إطار المرحلة التاريخية التي كتبت فيها". ومن جهة أخرى يقرر في موضع آخر عكس ما أثبته هنا. وهذا ما يفسره أحمد يوسف في كتابه القراءة النسقية (ص: 356) "بالتناقض المنهجي، وعدم صلابة رؤيته النقدية، وخلطه بين الرؤيتين السياقية والنسقية"[16]، وبالنسبة لنا نرى بأن المنهجين الموضوعي والبنيوي قد لا يتعارضان بل يكملان بعضهما بعضا بشرط عدم خروج الدراسة والتحليل عن إطار النص والتزامها بالنص وفقط أما إذا انفتح المنهج الموضوعي على مناهج أخرى غير البنيوية ونقصد بها المناهج السياقية فهذا يزيد الدراسة غنى وتنوعا وثراء لكن بشرط أن لا يستغرق الدارس في هذه المناهج فيخرج بذلك عن مبادئ وقواعد المنهج الموضوعاتي ومن أهمها الالتزام والإخلاص للموضوع بشتى تجلياته.

 



[1] سعيد علوش، تنسيق عز الدين العمراني، النقد الموضوعاتي، شركة بابل للنشر والطباعة، الرباط، الطبعة الأولى : 1989، ص: 37.

[2] حميد الحمداني، سحر الموضوع، عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر، مطبعة آنفو-برانت، فاس، الطبعة الثانية : 2014، ص: 59/60.  

[3] نقلا عن مقال فاطمة هرمة، النقد الموضوعاتي –الماهية والتشكل-، مجلة الخطاب، العدد: 1، جامعة غرداية، الجزائر بتاريخ 31/01/2020،

   ص: 328.

[4] حميد الحمداني، سحر الموضوع، عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر، مطبعة آنفو-برانت، فاس، الطبعة الثانية : 2014، ص: 55.

[5]نفس المصدر، ص: 60/61. 

[6] حميد الحمداني، سحر الموضوع، عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر، مطبعة آنفو-برانت، فاس، الطبعة الثانية: 2014، ص: 72.

[7] حميد الحمداني، سحر الموضوع، عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر، مطبعة آنفو-برانت، فاس، الطبعة الثانية: 2014، ص: 74.

[8] حميد الحمداني، سحر الموضوع، عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر، مطبعة آنفو-برانت، فاس، الطبعة الثانية: 2014، ص: 75.

[9] عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعي نظرية وتطبيق، ط أ: 1990م/1411ه، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص: 10.

[10]سعيد علوش، تنسيق عز الدين العمراني، النقد الموضوعاتي، شركة بابل للنشر والطباعة، الرباط، الطبعة الأولى : 1989، ص: 38.

[11] أحمد يوسف، نقلا عن بحث كريمة زيتوني، المنهج الموضوعاتي في مقاربة الشعر العربي، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر

  ص: 160.

[12] سعيد علوش، تنسيق عز الدين العمراني، النقد الموضوعاتي، شركة بابل للنشر والطباعة، الرباط، الطبعة الأولى : 1989، ص: 39.

[13]سعيد علوش، تنسيق عز الدين العمراني، النقد الموضوعاتي، شركة بابل للنشر والطباعة، الرباط، الطبعة الأولى : 1989، ص: 41.

[14]سعيد علوش، تنسيق عز الدين العمراني، النقد الموضوعاتي، شركة بابل للنشر والطباعة، الرباط، الطبعة الأولى : 1989، ص: 41. 

[15] سعيد علوش، تنسيق عز الدين العمراني، النقد الموضوعاتي، شركة بابل للنشر والطباعة، الرباط، الطبعة الأولى : 1989، ص: 41.

[16] كريمة زيتوني، المنهج الموضوعاتي في مقاربة الشعر العربي، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر ص: 164. 




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
سعيد