مقدمة
العهد القديم
مجموعة من الأسفار المقدسة التي تشكل في
مجموعها کتاب اليهودية المقدس، الذي بطلق
عليه- على سبيل الخطا الشائع- التوراة، رغم أن التوراة في واقعها ليست سوى القسم
الأول من العهد القديم، وقد ظلت أسفار العهد القديم ستة عشر قرنا
تتمع بقداسة كبيرة في الأوساط اليهودية،وحتى في في الأوساط الأوربية
المسيحية ، دون أن تقدم أي دراسة نقدية
تحليلية للكتاب المقدس ، إلى غاية
القرن السابع عشر تم ظهور علم جديد عرف
بنقد الكتاب المقدس بعهديه القديم " التوراة والأسفار"
والجديد"الأناجيل والرسائل"
مما أدى إلى خلق الشك والتشكيك
والجدل، وقد شجعت هذه النتائج على دراسة نصوص العهد القدیم
برؤية جديدة ت تتکئ، على التحليل النقدى،
لا على التسليم المباشر والاعتقاد الجازم بما ورد
في هذه النصوص، ومن هنا ، فقد وجد الأنثروبولوجيون وعلماء الفولكلور مادة
خصبة في نصوص العهد القدهم، فخرجت بعد ذلك
العديد من الدراسات التي أبرزت المعتقدات والعادات الشعبية في تلك النصوص ، كما
تناولت بعض الدراسات ملامح الأدب الشعبي في العهد القديم.
الفصل الأول
صراع الرب مع التنين.
لعبت أسطورة التنين دورا بارزا في أساطير العالم القديم، وقد اتخذ الشكل
الأول لأسطورة التنين نموذجا من نماذج أساطیر نشأة الكون وهو النموذج الذى يطلق
عليه حرب الآلهة ، وفي ذلك النموذج، كان
العالم يتم خلقه عن طريق الصراع
بين الأجيال الجديدة من الآلهة، والتي يتزعمها بطل من الآلهة يصبح فيما بعد مسؤولا
عن الخلق، وبعد ذلك الصراع الذى يحدث في الزمن الأزلى، وبعد تغلب الإله الخالق على
التنين يقوم ذلك الخالق بخلق العالم- في الغالب- من أجزاء ذلك التين، إذن فأسطورة
التنين- في شكلها الأول- كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بموضوع والخليقة، کما أن التين
فيها بعد تم تصعيده إلى مرتبة الآلهة،
وتطوت أسطورة التنين فيما بعد ذلك وأخذت
أشكالا أخرى "كالوحش" وبعد ذلك
خرج التنين من عالم الألهة والخليقة إلى عالم الأساطير ، وبتطور الفكر
الأسطوري تم إبدال "التنين الرب " بالتنين الوحش" والصورة التقليدبة
لشكل التنين هي أنه حیوان بجسم أفعی
ومخالب أسد ورأس تمساح ،وجسمه مغطی بالحراشف، وارتبط التنين - كحيوان أسطوري
بالمياه ، بالأماكن الصحراوية والخرائب ، كما تطورت صورة التنين بعد ذلك ليصبح حية ملتوية، وحية
ملعونة ذات رؤوس سبعة ، مخيف الشكل .
-
نماذج أسطورة التنين في تراث العالم القديم
أسطورة
التنين حضرت شعوب العالم القديم في جميع مستوياتها ،
كأسطورة الخليقة التي يصارع الرب فيها التنين أو أسطورة البطل الخارق القوي الذي
يقهرالتنين ، ويتضح هذا في نماذج أسطورية
كانت سائدة لدى شعوب العالم القديم
، مثلا في مصر عرفت الأساطير المصرية فكرة
صراع الرب مع التنين، متمثلة في أسطورة فشل التنين ورواية الخلق ، كما حضرت
في "كتاب معرفة مخلوقات رع وقهر أبوفيس " نصوص صراع حول صراع الإله "رع " مع
التنين" أبوفيس" الذي كان يتخد
هيئة الثعبان ، وكذلك صراع بين الإله" أتوم" وبين التنين ، وهذا
يدل أن الأساطير المصرية حددت التنين
على هيئة ثعبان وجعلته في مصاف
الألهة بدليل وصف الثعبان بأنه "
مانع الصفات".
في بلاد
النهرين، نجد نمودجا عن صراع الآلهة ، والذي تولى فيه بطل من الآلهة الجديد قتل
التين من أحد الأسلاف الإلهية الهيولية، والذي تمثل في
ملحمة الخليقة البابلية المسماة إينوما إبليش" ووفقا لهذه
الملحمة كانوا سوى ثلاث ألهة " أبسو"و" تيامات" و " ممو" كانت حالتهم متمازجة يعيشون السكون والصمت ، إلا أن
تناسل "أبسو" و" تيمات " و وتكاثر
نسلهما بالألهة الجديدة التي
أصبحت تشكل إزعاجا لهما فقرر " أبسو" التخلص منهما إلأ أن أحد من الألهة
الجديدة المسمى بالإله "إيا" قتله ، كما ولدت زوجة هذا الأخير " مردوك" الإله
البطل المهيب ، فأنقد الأجيال
الجديدة من الألهة ، عندما
قتل "تيامات" التي كانت
تتأهب للقضاء على تلك الألهة من الشباب
، بعد ذلك تفرع سيد الألهة "مردوك" لإقرار النظام الکوني ، حيث خلق الشمس والقمر
والأفلاك والأبراج، ومن ثم قسم الزمن إلى وحدات زمنية سنوات وشهور وأيام
رليالي ، وقسم حتى
الآلهة إلى سماوية وأرضية، وبعد
الإنتهاء من عملية الخلق ، بنى
الألهة " لمردوك" مدينة
بابل ومعبد إيزاجيلا ، اعترافا
منهم بفضله في إنقاذهم وخلاصهم .
فالملحمة بينت
الصراع بين بين الخالق و التنين
"حرب الألهة"، وانتصار الرب على التنين، و شروع الخالق بعد انتصاره في
إقرار النظام الكوني وخلق العالم، و رمزية التنين
تدل على مرحلة الفوضی ما قبل الخليقة
ورمزية انتصار الخالق تدل على
مرحلة التحول نحو النظام الكوني وخلق عناصر العالم المختلفة.
أما في التراث
الرافدي فقد تضمن أيضا نمودجا لصراع البطل ضد التنين وهو النموذج
لمتمثل في أشهر وأقدم ملاحم العالم المساة
"ملحمة جلمامش" حيث تجسد فيها
بالحاكم الطاغي المستبد ، ثلثاه
إله وثلثه بشر ،
لهذا ضج أهل المدينة
ورفعوا شكواهم إلى الألهة ، التي
كلفت الإلهة "أرورو" بخلق ند لجلجامش
والمسمى بإنكيدو، وانتهى صراعهم بصداقة حميمية ، وأصبح الحاكم يهدف إلى
حماية مدينته من الشر المتمثل في شخصية
الوحش " خوارا" حارس
غابات الأرز في أرض الأحياء .
وتبين هذه الملحمة ، انتقال الصراع بين البطل وبين التنين
إلى العالم الأرضی، وإن لم يفقد أبطال هذا النموذج علاقتهم بالعالم الإلهي تماما ،
حيث كان جلجامش بطلا مركبا من عناصر إلهية و عناصر بشرية (ثلثه)، کان يبدر أن
الوحش "خواوا" هو الآخر كان من مرتبة أدني من الآلهة، كذلك يفقد هذا
النص علاقته تماما بموضوع الخليقة.
وفي سوريا
القديمة، كان الصراع الأزلی من الخالق والتنين يشكل جانبا هاما في أسطورة الخلق الكنعانية،
وفی مجموعة الأساطير التي حكيت عن الإله الكنعاني "بعل"، يلعب هذا الإله
نفس الدور الذي لعبه "مردوك" في ملحمة الخليقة البابلية " إينوما
إبليش" في قهر المياه الأزلية وإحلال نظام الکون، والمياه الأزلية في هذه الأساطير يمثلها الإله
"یم" ، ابن الإله "إيل"
كبير آلهة الكنعانيين.
إن أسطورة
التنين تمثل صراع البطل نصف الإله أو
البشري ضد التنين لم يتم اكتشافها حتى
الآن بين ثنايا ذلك التراث، وإذا لم يتم اكتشاف مثل ذلك النموذج في المستقبل ، بما
يعنی غيابه عن المجموعة الميثولوجية الكنعانية ، فإن مرجع ذلك يتمثل في غموض مفهوم
البطولة البشرية لدی الكنعانيين، حيث لم يقدم لنا التراث الكنعاني في هذا الصد د
سوی ملحمتین "كرت ملك صيدون" و"أقهات بن دانيال " ، وهما
ملحمتان لاتقدمان صورة واضحة للبطل الفرد القوى في عالم البشر.
وفي إيران
القديمة تقدم النصوص البهلوية فكرة عن
الصراع بين الخالق وبين قوى الشر في الأزل ووفقا لهذه النصوص، فإن العالم نشأ من
أصلين هما النور و الظلمة هذان الأصلان کانا في نزاع معا وكانا يناوبان الانتصار
فيما بینهما ، لذلك فقد قسم العالم في
البدء إلى قسمين ، جيش النور أو الخير كان
يرأسه " أهورا مزدا" ، وجيش الظلمة أو الشر كان يرأسه" أهريمن"
وتمثلت حكايتهما في كتاب "بونداهشن"
وفي الفصل الأول من کتاب بونداهش (قصة الصراع)،
اتجه أهورامزدا إلى خلق عناصر العالم ، وتكلف
بالخلق المادي،السماء – الماء - الأرض- النباتات - الماشية- الإنسان، وكان سابع القوى المقدسة الخالدة التی خلقها بعـد ذلك الأنوار، وجعلها بين السماوات
والأرض(نجوم ثابثة و غير ثابثة ، ثم القمر ثم الشمس) ويتبين من خلال النصوص أن
الأساطير الإيرانية تختلف عن النموذجين البابلي والكنعاني في عدة أمور منها أن النصوص الفارسية لم تنص
صراحة علی کون أهريمان، - مصارع الخالق تنينا أو أفعي، وهر ما يخالف ركنا هاما من
أركان أسطورة التنين إن النصوص الفارسية نزعت
في تصويرها للصراع إلى تجريد
المحسوس، والإتکاء على المعاني المجردة التي تمثلها الآلهة: النور والخير، الظلام
والشر، القوى المقدسة الخالدة الشر، الكذب، الطغيان، التكبر (جنود أهريمن)وربما
كان هذا هو السب في عدم تجسید أهريمن في
شكل التنين .
كما أن المعركة
في النصوص الفارسية لم تنتهي بعد، وإنما لها بقية أخرى، ربما عند نهاية العالم،
حيث نصت تلك الأساطير على أنه في المعركة الأخيرة، سوف يجعل أهورامزدا من الروح
المدمر عديم القيمة وقد استخدمت النصوص
الفارسية في ذلك صيغة المستقبل، بما یعني استـکمال الصراع في وقت آخر يمثل نهاية
العالم.
ووفقا للنظرة
الفارسية في قيام الصراع بين الخالق والتنين كان
هناك اتفاق على الهدنة تسعة
ألاف عام ، لهذا في هذه
الفترة قام الخالق "أهورامزدا"
بخلق عناصر العالم ووقوع الصراع واستنناف
القتال
مرة أخرى عند
نهاية المهلة المحددة التي يفترض أن تحدث في نهاية العالم.
ومن أشهر
الأبطال الفرس الذين صارعوا التنين "گرشاسب"، حيث تحكي عنه"
الأفستا " كتاب (الزردشتية المقدس) أنه قتل تنينا عملاقا ذا قرنين كان يبتلع
الناس والخيول، وفي ملحمة فارسية أخرى
(الشاهنامة) تحكي أيضا عن أشهر أبطال الفرس طرا وهو "رستم "
ووفقا لهذه الملحمة قتل رستم ثعبانا هائلا
بمساعدة حصانه "الرخش ".
أما في اليونان
القديمة، فإن نموذج أسطورة التنين على مستوى الصراع بين الآلهة يختلف إلى درجة
كبيرة عن النموذج العام، ففكرة حرب الآلهة موجودة في الميثولوجيا اليونانية،
وممثلة في الصراع بين "کرونوس" وبين ابنه "زیوس"، والذي انتهی
بانتصار زيوس على أبيه وأسره وإلقائه إياه في ظلام (تارتاروس) أي العالم السفلی، وانفراد زيوس بحكم العالم، و
وممثلة كذلك في الصراع بين زيوس والعمالقة؛ والذى انتهى بانتصار زيوس أيضا،إلا أن
هذا الصراع لايمث - من قريب أو بعيد- بصلة ما بمِوضوع الخليقة، كما أنه لم يتخذ أي
من أطراف الصراع هيئة التنين أو الثعبان أو ما إلى ذلك في المقابل ، نجد زخما من
الأساطير التي تحكي عن "البطل" ذابح التنين في العالم الأرضي كما
أن فكرة البطل ذابح التنين هي فكرة شائعة
جدا في الميثولوجبا اليونانية، کما أن
أبطال هذا النموذج متعددين ومن أبرز
الأبطال الإغريق ذابحي المسوخ نجد على
سبيل المثال پیرسپوس ، وهيراکليس، وئيسيوس
وبيلليريفوں....
-وبالنسبة
لهيراكليس ، أشهر أبطال الإغريق، فقد تعد دت صراعاته مع الكثير من الوحوش والمسوخ،
التي يقترب بعضها من صورة التنين المعروفة في الخيال الشعبي، وبعضها يبتعد عن تلك
الصورة إلى حد ما بحيث يمكن اعتبارها تنويعا على صورة التنين، على الأقل في
اشتراکها معه في رمزية الشر.
النماذج
العبرية لأسطورة التنين
وردت قصتان
للخليقة في الإصحاحين الأولين من سفر التکوين
هذان الإصحاحان لم تتضمنا أية
إشارة إلى خلق العالم وإقرار النظام
الكوني عن طريق صراع الرب مع التنين، ومع ذلك لم تخل أسفار العهد القديم، وبخاصة
أسفار المكتوبات، من إشارات إلى قوی المياه، وأخرى إلى جبروت الرب وقوته ، وثالثة
إلى خلق العالم، ورابعة إلى صراع الرب مع التين وقد استخدمت تلك الأسفار عدة
أسماء، أطلقتها على قوى المياه، منها: يم
يعني البحر، و جلييم يعني الأمواج..... والإشارة إلى المياه هنا لإبراز قوة الرب على كبح القوى المائية التی
تمثلها تلك لأسماء ، فالرب يكبح ويسيطر
على قوى البحر، والرب يحمو غضبه على الأنهار والبحار)، وفي كل هذه الإشارات
السابقة تعمل على تشخيص قوى المياه على أنها طرف صراع ضد الرب، وإن كان طرفا
مقهورا هذا التشخيص يومي من بعيد لفكرة صراع الرب، ليس ضد المياه في ذاتها، وإنما
ضد الكائنات المائية المرعبة التي من بينها التنين بالطبع، وهي إيماءات به غير
صريحة ، يؤكد هنا النص الذی ورد علی لسان أيوب، مخاطب الرب بقوله (أبحر أنا أم
تنين حتي جعلت على حارسا، أيوب) وفي أسفار المكتوبات احتوت على إشارات حول صراع
الرب ضد التنين، والذى اتخذ في هذه النصوص عدة أسماء ، أبرزها : التنين لوياثان -
رهب – بهيموث، وكان بعض هذه النصوص يصف
التنين وصفا دقيقا لإبراز صورته المخيفة، وبعضها الآخر يشير إلى صراع الرب مع
التنين الذي حدث عند بدء العالم، وأهم النصوص التي أشارت صراحة إلى فكرة صراع الرب
مع التنين، هي النصوص التي يمكن تصنيفها على النحو والترتيب التاليين:
-نصوص تتعلق بوصف التنین.
- نصوص تتعلق
بالصراع الأزلي بين الرب والتنين .
-نصوص تتعلق
بالصراع الأخروی بين الرب والتنين .
أولا : وصف
التنين
-
بهيموث:
يأكل العشب کالبقر، و قوته تكمن في مثنيه وشدته
فيعضل بطنه و عروق فخذيه مضفورة وعظامه
ينابيع نحاس عظامه ... والتنین بهيموث، يغلب عليه الطابع الصحراوى، حيث يذكر أرثر
کوتاريل« أن کتاب ما بعد العهد القديم اعتقدوا بوجود نوعين من التنين، أحدهما بحرى
والأخر صحراوی...وعلى قدر ماتؤكد نصوص ذكرت في سفر "إنوش " إلى فكرة أن بهيموث
هو تنين مذكر، يرتبط بالطبيعة الصحراوية،
فنص سفر أيوب يشير إلى أن بهيموت
ينتمي إلى عدة بيئات: جبلية – نهرية خصبة – مستنقعات ،كما وردت نصوص عبارات (هو
أول سبل الله) و (أول أعمال الله) فالعبارة الأولى تحيل
إلى أن صراع الرب مع التنين
بدأ عند بدء العالم ، أما الثانية فتحيل إلى أن التنين كان أول
مخلوقات الله .
ثانيا: الصراع
الأزلي بين الرب والتنين
أشارت عدة نصوص
في العهد القديم، إلى الصراع الذي دار في الماضي الأزلی بین الخالق والتنين، وأهمها:
1-إشعيا 51 :
(إنهضى تغلبي
إلبسی جبروتا يا ذراع الرب، إنهضي كما في الأيام القديمة وفي العصور الأزلية، ألست
أنت القاطعة رهب الطاعنة التنين الذي في البحر، )هذا النص يبرز جبروت الرب وقوته، وهو لايحكى بالأسلوب
السردي القصصى حكاية الصراع الذى دارت في الأيام القديمة في العصور الأزلية بين
الرب والتنين، وإنما يعيد ذكرى تلك
المعركة الأزلية وقد استخدم النص
للإشارة تدل على أن الصراع
والمعركة حدثت و انتهت في الماضي الأزلي أما علاقة النص بموضوع الخلق
فلا توجد هناك علاقة مباشرة، حيث لايعقب
ذلك النص مباشرة الحديث عن الخلق، ذلك ويمتلئ سفر إشعيا بالإشارات إلى أعمـال
الخلق، فالرب خالق السماوات، وباسط الأرض، هو خالق الإنسان (يعقوب)، والناس
(إسرائيل)وهو خالق كل شيء، ومصور النور، وخالق الظلمة وصانع السلام وخالق الشر.
ثالثا : الصراع
الأخروي بين الرب والتنين
تتحدث نماذج
أخرى من أسطورة التنين عن وقوع الصراع بين الرب والتنين في المستقبل وليس في
الماضی، هذا المستقبل يتعلق في الغالب بنهاية العالم التي ستشهد صراعا مماثلا لما
وقع في بداية العالم بين الرب والتنين، وأبرز نصوص العهد القديم التي تمثل هذا
النموذج ، هو النص الأتي :
إشعيا 27 : (
في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لویاثان الحية الهاربة،
لویاثان الحية الملتوية ويقتل التنين الذي في البحر) والصراع الذى أشير إليه
في هذا النص بين الرب والتين هو-
كما سبق القول - صراع أخروي سيحدث عند نهاية العالم، و علاوة على الاشارات السابقة
إلى مستقبيلة الصراع، فإن التعبير"الحية الهاربة "، يؤکد على شيئين
أولها أنه يعمق من فكرة مستقبلية الصراع
بين الرب والتنين وثانيهما أنه يوحي بأن هذا النص يعتبر استكمالا للنصوص
الأخرى التي تناولت الصراع الأزلى بين الرب والتنين عند بدء
العالم وهنا يمكن الإقتراض بأن
الصراع الأزلى بين الرب والتنين لم ينتهي
بقتل هذا الأخير ، وكما قيل الذي فر من وجه الرب سيظل هاربا إلى نهاية
العالم، حيث يلتقيان في معركة أخرى
نهائية ينتصر فيها الرب ويسحق التنين
.
وبدراسة النصوص
العبرية المتعلقة بصراع الرب مع التنين مجتمعة، يمكنا تحديد الملامح الآتية
لأسطورة التنين في العهد القدیم ، فنجد عدة نماذج من بينها :
-النموذج
العبري لأسطورة التنين يتعلق بالمستوى الأول لتلك الأسطورة، وهو مستوی الصراع في
العالم الإلهی بين الرب، والتنين فقط.
-النموذج
العبري لایمثل نصا قصصيا أسطوريا کاملأ يحکی وقائع الصراع بين الرب، والتنين
بالتفصیل وإنما جاء لإبراز عظمة الرب
وقدرته ومجهده وجبروته.
-النموذج
العبري تضمن ثلاثة مستويات لأسطورة التنين،
الأول منها نصوص تصف هيئة التنين المرعبة وتصف قوته وجبروته، وثانها نصوص
تحيل إلى المعركة الأزلية بين الرب و بين
التنين ، وثالثها نص يصف المعرکة الأخروية بينهما.
-النصوص
العبرية لم ترد في متن العهد القديم بنفس الترتيب المفترض، النموذج العبري لم
يتعامل مع شخصية التنين باعتبارها إلاها، وإنا قدمه في هيئة مخلوق جبار قوي صارع الرب لكنه انهزم.
-مجئ
النموذج العبري على هيئة نصوص متناثرة ،
أحدث بعض التناقض بين هذه النصوص وبين
بعضها البعض، ومن هذه التناقضات:
كما أن أبرز السمات الأسطورية التي تتضح في هذه
النصوص تتمثل في ما يلي:
-تصوير الإله
الخالق (يهوه) في جميع النصوص بصورة المقاتل القوي الجبار الذي يقهر قوى المياه
بشكل عام والتنانين بأنواعها المختلفة بشکل خاص بذراع قوته وبسیفه القوي الشديد.
-و تشير هذه النصوص
جميعا إلى أزمنة أسطورية صرفة تختلف عن الأزمنة التاريخية العادية وعن التجارب
اليومية الواقعية سواء ما تعلق منها بالأزل (مرحلة ما قبل الخليقة) أو بآخر
الأيام، كذلك ترافق مع هذه الأزمنة الأسطورية في نصوص العهد القدیم وجود
عوالم وأمكنة أسطورية غير محددة ترتبط معظمها بالبحر و الأمواج و اللجج ومن المعروف أن هذه الأخيرة تعد من
العناصر ما قبل الخليقة
وقبل تشكيل العالم والزمان والمكان
.
كما أشارت نصوص العهد القديم إلى الطرف الثاني
من أطراف الصراع على أنه التنين، وهو كائن يتميز
بأسطوريته الصرفة ، كما كانت
بالإشارة إلى عدة أنواع من
التنين ( رهب - لریاثان- بهيموت )
کما وصفت نوعين من هذه التنانين وصفا رهيبا يؤكد على أسطورية تلك الكائنات التي
عاشت في الخيال الشعبي.
-يتميز البناء
الفکری لنصوص العهد القديم التي سبق دراستها، والتی تتعلق بصراع يهوه ضد التنانين
، بقيامه على المبدأ الثنائي للقوى المتعادية، والصراع بين الخير (يهوه) والشر
(التنين)، وبين النور يهوه والظلام (التنين)، كما أن العالم الذي قدمته
لنا هذه النصوص هو عالم درامي يقوم على الأحداث والقوى المتعارضة المتصارعة .
وأما عن
المقارنة بين النموذج العبري المتعلق بصراع الرب ضد التنين وبين أساطير الشرق
الأدنى القديم المماثلة، فیمكن القول بأن النموذج العبري يتشابه كثيرا مع أساطير المنطقة، ومن بين أوجه التشابهة
نجد:
أولا : فيما
يتعلق بوصف التنين، في مجمل الأساطير نجده أخذ صورة مرعبة ومخيفة ، فمثلا في (ملحمة
إينوما إبليش) وصفت الملحمة تيامات التنين
الأصلي في الملحمة عندما تأهبت لقتال بقية
الألهة ( ولدت تیامات حیات مرعبة أسنانها حادة......ولدت
تنانين هائلة كستها بالرعب ..... ) کما
وصفت الملحمه الإله کنجو - قائد جیش
تيامات والذي ينتمي إلى طائفة التنانين-
بأن (اللهب ينبعث من جسده).
ومن ناحية وصف
التنين على أنه حية أي ثعبان ، ورد في النصوص أيوب26 وفي إشعيا 27
فأن ذلك الوصف موجود في أسطورة فشل التنين ورواية الخلق المصرية.
وكذلك وصف حية
متعددة الرؤوس وردت في المزمور74، كما أن
رؤوس لوياثان كانت موجودة في أسطورة بعل
الكنعانية (الحية الملعونة ذات الرؤوس السبعة).
من ناحية وصف
اصطياد التنين الوارد في النص
أيوب 40 و24 ، بأنه يثقب أنفه بشص.
...، هذا الوصف نفسه ذكر أيضا في الملحمة البابلية .
ثانيا :فيما
يتعلق بوصف الإله الخالق مصارع التنين بهيئة
التنين ذاته فالوصف
الذي أضفى على (يهوه) في النمودج العبري
، موجود في نفس الوقت مع في الملحمة البابلية ، التي وصفت (مردوك) الإله الخالق البطل مصارع التنين، بأنه إذا فتح شفتيه خرج من بينهما لهب ونار .
ثالثا: فیما
يتعلق بفكرة الصراع الأزلى بين الخالق والتنين وارتباط ذلك الصراع بالخليفة، وهي
الفكرة الواردة في جميع النصوص العبرية فيما عدا النص إشعيا 27 ، فإن مرجعها إلى الملحمة البابلية (إينوما
إيليش) التي تعد أكمل نموذج لهذه الأسطورة، وإلى النصوص المصرية القديمة، وإلى
جانب من النموذج الفارسي، وكذلك إلى الملحمة الكنعاني حيث بعد (بناء بعل مسكنه فوق
جثة التنين رمزا لإقرار نظام العالم بعد مرحلة فوضی ما قبل الخليقة التي يرمز إليها التنين).
رابعا : فيما
يتعلق بفكرة الصراع الأخروي بين الإله الخالق والتنين ، والتي وردت في النص إشعيا 27 والتي يمثلها أيضا تعبير (الحية
الهاربة)، فإنها تكاد تتطابق
مع الفكرة الفارسية عن الصراع الأزلي الذي لم ينته بالقضاء على
التنين (أهريمن) ، بل تم تأجيل الصراع
لمدة تسعة الاف سنة ، يقضي بعدها
الإله (أهورامزدا) على غريمه الإله
(أهريمن) في نهاية العالم ، ويتبين من خلال هذا وجود تطابق بين النموذج العبري وبين نماذج الشرق
الأدني القدیم مما يدل على أن النموذج
العبري في الأصل اقتبس
من نماذج الشرق الأدني القديم ،وهذا
لا يعني إقلالا من شأن النموذج العبري ولكن كانت مبررات قوية
تتماشى مع العقل والمنطق ، ومن هذه
المبررات:
-نجد أسطورة
التنين شأنها شان النماذج الأخرى لأساطير الخلق و کذلك أساطير الطوفان تنتمي إلى طائفة الأساطير التي يطلق عليها الأساطير المائية وهذه الطائفة من
الأساطير لم تعرف إلا عند الشعوب الزراعية التي عاشت على ضفاف الأنهار ، في حين العبرانيون عاشو حياة الترحال ولم يعرفو الإستقرار على ضفاف الأنهار إلى
في فترات عبوديتهم في مصر وسبيهم إلى بابل ، لهذا أوضاعهم هي التي
كانت عاملا في عدم إبداعهم الأساطير من طائفة الأساطير المائية .
فكرة البعث
والقيامة والحساب والمرتبطة بفكرة الصراع الأخروى ، هي فكرة ميزة للنموذج الفارسي على وجه الخصوص ، لم تكن
فكرة واضحة في الفكر الدیني الإسرائيلي ، بل تكاد تختفي من أسفار العهد
القديم ، ومن تم تصبح فكرة الصراع الأخروي الواردة في سفر إشعيا فكرة منتحلة من النموذج الفارسي.
أما الأسبقية
التاريخية لنموذج على أخر تنحاز إلى جانب
نصوص الشرق الأدنی القديم، بينما تأتي النصوص العبرية متأخرة جدا ، ومن الطبيعي
أن ينتحل السابق من الاحق ، وأن يستفيد منه على الأقل.
أما بالنسبة لاختلاف الباحثون في تحديد تاريخ
النصوص الفارسية التي وردت بين ثنایا کتاب الزردتشتية المقدس (الأوستا)، حيث تجمع معظم الآراء على أنه يرجع إلى النص
الثاني من القرن السابع قبل الميلاد ، أما تاريخ ميلاد زردشت
وبعثه ومن تم تاريخ كتابة المقدس
هو محل اختلاف كبير ، حيث يرجع بعض الباحثين وكذا أصحاب العقيدة الزردشتية (البارسيين) أنفسهم
بتاريخه إلى ما قبل التاريخ المتعارف عليه
بزمن طويل .
وكذلك اختلف
الباحثون في تحديد
سفر أيوب منهم من يرجعه إلى
القرنين الخامس والثالث قبل
الميلاد ، ومنهم من أرجعه إلى القرن
الثالث والثاني قبل الميلاد ، وكان الإختلاف حتى في سفر إشعيا من حيث التقسيم ومن حيث التأريخ
الإصحاحات منهم من قسمه إلى ثلاث أقسام ومنهم إلى قسمين.
-ومن هذا
البيان السابق لتواريخ نصوص الشرق الأدني القديمة والنصوص العبرية يتبين أن نصوص
المنطقة والنصوص العبرية، ويصبح هناك
فارقا زمنيا كبيرا بين نصوص المنطقة والنصوص العبرية ، فعلى
سبيل المثال يصبح الفارق
الزمني بين أقدم النصوص العبرية (إشعيا) ، باعتماده الرأي القائل بانتمائه إلى
القرن الثامن قبل الميلاد ، وبين أحداث النصوص المصرية حوالي خمسة
عشر قرنا ، وبينه وبين النص
البابلي حوالي أحد عشر قرنا تقريبا
، وبينه وبين النصوص الكنعانية حوالى ستةٔ قرون وبينه وبين
النص الحيثي ( بحساب النص
الذي ينتمي إلى أخر عصر الإمبراطورية ) حوالي أربعة قرون تقريبا .
ومن كل ما سبق
نستطيع أن نؤكد على أن نصوص العهد القديم لاتمثل سوى اقتباس من تراث الشرق الأدني
القديم فيما يتعلق بأسطورة التنين، وأن
قصة صراع صراع الرب مع التنين تطورت في
فترات متقدمة من تاريخيها ، بفعل نشاط أنبياء فترة السبي البابلي
وما بعدهل، وبخاصة (عاموس) الذين حاولوا قدر جهدهم تنقية الديانة
اليهودية من الشوائب الفكرية الوثنية ، فيما عادا استبعاد فكرة تأليه التنين من
النصوص العبرية و ظلت السمة الأسطورية
واضحة في نصوص العهد القديم، وبخاصة وصف التنين، وفكرة صراع الرب ضد ذلك التنين،
وارتباط ذلك الصراع بالخليقة، وهي السمات الأسطورية التي هيمنت على هذه النصوص في
عصر يفترض فيه أن الديانة اليهودية حققت
فيه تطورا ملحوظا، ولو لم يكن ذلك الاقتباس من تراث الشرق الأدني القديم،
ولو كانت هذه النصوص إبداعا يهوديا صرفا. لربما اختلف حالها عما هي عليه وعما
وصلتنا به، ولظهرت فيها ورح والتطور في الفكر الدينی.
الفصل الثاني :
أبناء الله
وبنات الناس
نص القصة،
الإصحاح السادس :
« وحدث لما
ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم البنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس
أنهن حسنات. فأتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في
الإنسان إلى الأبد لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مئة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة
في تلك الأيام وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا.
هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم .
ورأى الرب أن
شر الإنسان قد كثر في الأرض . وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن
الرب أنه عمل الإنسان في الأرض . وتأسف في قلبه .
ومضمون القصة،
وفقا لما تطرحه الترجمة العربية المعتمدة للعهد القدیم، أنه مع ابتداء كثرة الناس
على وجه الأرض ، وتحديدا عندما ولد لهؤلاء الناس «بنات» ، رأى «أبناء الله»، تلك
البنات ، فأعجبهم حسنهن واتخذوا لأنفسهم منهن نساء. وهنا ثارت ثائرة الرب «يهوه»
وأعلن أنه «لايدين روحه في الإنسان إلى الأبد» بسبب زيغانه، لأنه بشر كما عاقب
الرب الإنسان بأن قصر سنى حياته على مائة وعشرین سنة فقط كحد أقصی، بعد أن كان
الحد الأقصی لحياة الإنسان من قبل يتراوح بين ثلاثمائة وخمس وستين سنة (أخنوخ)،
وتسعمائة وتسع وستين سنة (متوشالح) . وتقرر القصة بأنه في تلك الأيام كان هناك
طغاة في الأرض. وقد استمر وجود هؤلاء الطغاة بعد ذلك ممثلا في ثمرة زواج أبناء
الله ببنات الناس، وهم الجبابرة الذين منذ الدهر «ذوو اسم»!
وقبل التعرض
لهذه القصة بالتحليل والنقد، بجب الإشارة إلى أنه بمراجعة الترجمة العربية للقصة،
والواردة في ترجمة الكتاب المقدس العربية المعتمدة والمتداولة، على النسخة العبرية
التي تحتوی على النص الأصلى للقصة في لغتها الأصلية، تبين وجود بعض الأخطاء في الترجمة،
وبسبب هذه الأخطاء في الترجمة، يمكننا تقديم ترجمة مقترحة لنص القصة من واقع
النسخة العبرية، على النحو التالی:
«وحدث أنه لما
ابتدأ البشر يكثرون على وجه الأرض وولدت لهم بنات . أن أبناء الآلهة رأوا بنات
الإنسان أنهن جميلات فاتخذوا لأنفسهم زوجات من كل ما اختاروا. وقال يهوه لاتحكم
(لاتعاقب) روحي على الإنسان إلى الأبد لأنه مخلوق ، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة.
وكان الجبابرة (العمالقة / المردة) في الأرض في تلك الأيام وبعد ذلك أيضا عندما
دخل أبناء الآلهة على بنات الإنسان ولدن لهم الجبابرة الذين منذ الأزل ذوو شهرة».
وبالقراءة
المتأنية لنص القصة ، يمكن ملاحظة الآتی :
أن هناك
تناقضًا في القصة بين افتتاحيتها ومضمونها من ناحية، وبين موقعها الزمني الترتيبى
الوارد في التوراة- من ناحيـة أخرى، بشأن ظهور «الإناث» على الأرض فوفقا لافتتاحية
القصة : «وحدث أنه لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات... »، فقد ظهرت
الإناث على الأرض منذ بداية تكون الجماعات البشرية القليلة التي أعقبت مقتل
«هابيل» وميلاد «شيت» . ومما يؤكد ذلك أن جدول الأنساب الذي يسبق القصة مباشرة
(الإصحاح الخامس) قد نص على أن آدم والأجيال الثمانية التي أعقبته قد أنجبوا جميعا
«بنين وبنات».
حول ماهية
أبناء الآلهة هزلا.
- أنه في
حالة التسليم - على سبيل الفرضية الجدلية- بحدوث تلك العلاقة «الجنسية» الأسطورية
بين أبناء الله وبنات الناس، فإن تلك العلاقة- وفقا للنص العبری ولترجمته العربية
أيضا-تكون علاقة «زواج شرعي» لا غبار عليه. ذلك أن العهد القديم اعتاد استخدام
اللفظ «أخذ امرأة- اتخذ امرأة»، للإشارة إلى الزواج، وليس إلى الزنا.
و أنه لما كانت
العلاقة بين أبناء الآلهة وبنات الناس- وفقا للفرضية السابقة – علاقة شرعية لا إثم
فيها، فلماذا صورت الترجمة العربية للعهد القدیم «يهوه»، غاضبا من تلك العلاقة
لدرجة أنه قرر عقاب الإنسان وحده ؟ ولماذا كان عقاب یهوه موجها للإنسان على الرغم
من أن أبناء الآلهة هم الذين رأوا بنات الناس وأعجبوا بحسنهن، وهم الذين اتخذوا
منهن نساء« من كل ما اختاروا »؟ هذا إلى جانب الاعتراف بسلطة أبناء الآلهة- وهم
الأقوی- على الجنس البشرى. وإذا كان هذا الفعل (زواج أبناء الألهة من بنات الناس)
يعد خطيئة في
نظر «یهوه» ، فلماذا قرر عقاب الإنسان علی اطلاقه، ولم بعاقب الذين ارتكبوا تلك
الخطيئة، ا بأشخاصهم ؟
بالنسبة لمسألة
العقاب، فأن هناك خلطا بشأنها. فوفقا للترجمة العربية للعهد القديم، فإنه على
الرغم من غموض واضطراب معنى كلمة (لايدين)، فإنه واضح من لهجة النص أن الرب قد قرر
عقاب الإنسان بألا (يدين) روحه فيه إلى الأبد، أما وفقا للترجمة المقترحة للنص
العبري، والتي قمت بتقديمها قبل تحليل القصة، هذا الشق لا يحمل أية إشارة إلى
العقاب.
أنه على الرغم
من أن القصة تؤصل لنشأة الجبابرة على الأرض في زمن ما قبل الطوفان، فإن التوراة
تعود فيما ذلك في الإصحاح العاشر لتذكر أن نمرود ابن كوش بن حام بن نوح هو أول
جبار في الأرض فكيف هذا وقد سبقته أجيال من الجبابرة.
وبعد تلك
الملاحظات الهامة، يمكن تحليل عناصر القصة، على النحو التالي :
أولا : الإله.
على الرغم من
أن قصص العهد القديم يتناوب فيها دور الإله كل من : «إلوهيم» و «يهوه»، حيث انقسمت
القصة الى مستويين، فيما يتعلق بالتصور الإلهي : المستوى التوحيدي الذي يبرز فيه
«يهوه»
على أنه الإله
الواحد المهيمن. والمستوى التعددي التجسيدي الذي يبرز فيه «إلوهيم» الذي أنجبت منه
أمرأته أولاده وهذا مستوى أسطوري صرف .
ثانيا : أبناء
الله (أبناء الآلهة) :
هناك محوران
لمناقشة ذلك العنصر : المحور الأول : اعتبار اللفظة «أبناء الله». وهنا يمكن القول
بأن هذه اللفظة وردت في العهد القديم وسفر أيوب، ولمناقشة ذلك يجب الإشارة الى أنه
حسب روبرتسن سميث قد أشار إلى نسق الديانات السامية القديمة كان يمثل جزءا من
الكيان الأجتماعي، حيث كانت العلاقة بين آلهة الساميين القدماء وبين أتباعهم يعبر
عنها بلغة العلاقات البشرية، بالمعنى الحرفي للكلام. ومن هنا يعتقد أن أتباع الإله
ينحدرون من نسله وأنهم أبنائه ما يعني حسب سميث أن أبناء الله يقصد بها البشر وهذا
غير صحيح لأنه يخالف صريح النص حيث تميز القصة بين أبناء الله وبين البشر ففي
مقابل أبناء الله نصت القصة صراحة على بنات الناس مميزة بذلك بين أنواع وطبيعة هذه
الكائنات.
على جانب آخر،
يفسر بعض الباحثين أبناء الله بأنهم الملائكة، باعتبار العبرانيين تمثلوا المعتقد
العربي القديم (الله تزوج بالجن)، ولكن يضعف من هذا الرأي أن العهد القديم اعتاد
بداية من قصة إبراهيم أن يستخدم ألفاظ ملاك الرب وملاك الله ورجل الله للإشارة إلى
الملائكة، وفي قصص أخرى أبناء الله هم الملائكة، ويبقى الأمر في النهاية في دائرة
الإحتمالات.
المحور الثاني
: اعتبار اللفظة «أبناء الآلهة». وهنا يمكن القول ببساطة أن تلك اللفظة تنم عن
معتقد مستعار من الشعوب التي عاش بينها العبرانيون في منطقة الشرق الأدنى القديم،
هذه الشعوب كانت تعرف فكرة الثواليث الإلهية المكونة من كبير اللآلهة وزوجته
وأبنائه كما اعتقدت في فكرة تناسل الآلهة
ثالثا : الزواج
الأسطوري :
إن فكرة الزواج
بين الكائنات المتباينة من الناحية النوعية هي فكرة سادت في معتقدات شعوب العالم
القديم، كما أن لها آثارا باقية في معتقدات بعض الجماعات الشعبية التي تحيا بيننا
الآن.
ففكرة زواج
الآلهة بالبشر هي فكرة إغريقية، ربما سبقتها في ذلك معتقدات بلاد النهرين، وما دام
التصور الأسطوري قد سمح بزواج الآلهة من البشر، فإنه يمكن أن يسمح أيضا بزواج
أبناء الآلهة من بنات البشر، وهو ما أقرته القصة العبرية.
رابعا :
الجبابرة (العمالقة).
أما بالنسبة
للعمالقة الذين كانوا وفقا للنص العبري هم ثمرة زواج أبناء الآلهة ببنات الناس،
فإنهم شخصيات أسطورية شهيرة، وخاصة في الميثولوجيا الإغريقية. فتذكر الأساطير
الإغريقية أن «التياتن titans » الجبابرة كانوا طبقة من الآلهة نتجت عن زواج السماء (أورانوس)
بالأرض (جيا)، وكان أشهرهم جميعا كرونوس.
وهناك أسطورة
كنعانية تؤصل لظهور العمالقة...وبذلك تعتبر القصة العبرية صدى للقصة الكنعانية في
ناحيتين وهما : ولادة العمالقة نتيجة للتزاوج بين العالم السماوي والعالم الأرضي،
ووجود العلاقات الجنسية إما بين هذين العالمين (كما في القصة العبرية) أو كنتيجة
لخلق العمالقة ذوي الأصل الإلهي.
فيما يتعلق
بالسمات المتعلقة بالفكر الأسطوري ذاته، فإن منطق الأسطورة لا يتلاءم مع تصوراتنا
عن الحقيقة التجريبية والعلمية وهو فكر ما قبل منطقي وخيالي، هذه السمات كلها
تنطبق تماما على القصة العبرية حيث أن زواج أبناء الله أو أبناء الآلهة لهو أمر
يتحاشى منطق الواقع لعدم اتفاقه والتصور المنطقي العقلي، ومن السمات المتعلقة
بالفكر الأسطوري فكرة الارتباط الوثيق بالدين، وبذلك تعتبر الأسطورة ديانة بدائية
تحمل طابع القداسة، وفي قصة أبناء الله وبنات الناس، نجد هذه السمات متحققة تماما،
حيث أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدين من خلال وجودها في متن التوراة، أما العنصر
الدرامي الأسطوري في تلك القصة فيتمثل في إحدى حلقات الصراع بين الإنسان وبين
القدر في قصة الغواية وخروج الإنسان الأول من الجنة، ومن خصائص الأسطورة أيضا سمة
التعالي التي تتمثل في تخلص الأسطورة من قيود الزمان والمكان والتجربة اليومية
وتحديداتها حيث تقع أحداثها في اللازمان أي زمن مختلف نوعا وغير مترابط واللامكان
أي أمكنة مختلفة ومجهولة مثل عوالم الآلهة، وفي قصة (أبناء الله وبنات الناس) تقع
الأحداث في زمان أولي مجهول وفي مكان غير محدد المعالم.
أما عن مدى
أصالة قصة (أبناء الله وبنات والناس) كإبداع عبراني خالص، فإنه يمكن القول بأن
القصة تحمل آثار معتقدات سامية قديمة، كما أنها تمثل-من ناحية أخرى- اقتباسا من
الميثولوجيا الكنعانية والإغريقية معا. إذن يثور التساؤل : متى وكيف اقتبس
العبرانيون تلك القصة؟
تم ذلك عبر
هجرات سامية من الجزيرة العربية إلى كل من المناطق الخصبة أو ما يسمى بالهلال
الخصيب، وغربا إلى أرض كنعان (فلسطين حاليا)، حيث حملوا معهم آثار المعتقدات
السامية، ودونوها في التوراة بعد نزولها على موسى بخمسمائة سنة، واكتمل تدوين
التوراة والأسفار المكملة للعهد القديم بعد أكثر من ألف عام من وفاة موسى.
بالنسبة
للاقتباس العبراني من الميثولوجيا الكنعانية والإغريقية، فإنه من المعروف أن
العبرانيين اختلطوا بالكنعانيين في أكثر من زمن ومنها زمن دخول إبراهيم عليه
السلام أرض كنعان وحتى خروج يعقوب وأولاده منها متجهين إلى مصر، أما الميثولوجيا
اليونانية (الإغريقية) فقد وصلت الى التراث العبراني من القناة الفينيقية حيث تأثر
الفينيقيون بالثقافة الإغريقية والعكس صحيح عبر الرحلات البحرية التي برع فيها
الفينيقيون.
وفي محاولة
لتصنيف أسطورة «أبناء الله وبنات الناس» بين أنواع القصص الشعبي، يمكن القول بأنها
تنتمي إلى نوع من الأساطير يطلق عليه «أسطورة الأصل»، وأسطورة الأصل هذه تقتضي
وجود العالم ضمنا، وتعتبر استمرارا وتكملة لأسطورة نشأة الكون، وهي تحكي عن حالة
جديدة وتبرر ظهورها.
الفصل الثالث
برج بابل
تمهيد :
من المشكلات الهامة التي تثار عند دراسة تاريخ
البشرية وأصول الجنس البشري، مشكلة اللغة والإنسان. فمن المسلم به أن البشرية في
مجموعها ترجع بجذورها إلى أصل واحد متمثل في الإنسان الأول (آدم) وزوجته ونسلهما،
ومن بعدهم الجماعات البشرية والأولى، بما يعني وجود وحدة شاملة للجنس البشري منذ
بدء الحياة على الأرض، تلك الوحدة التي لابد وأن تحتوي على أحد عناصر تلك الوحدة
الشاملة وهي وحدة اللغة.
ولما كان الأمر
كذلك، فإن هناك تساؤلين يطرحان نفسيهما بقوة : التساؤل الأول : إذا كانت هناك وحدة
لغوية للجنس البشري منذ البدء، فلا بد وأن تلك الوحدة اللغوية ترجع إلى اللغة
الأولى التي تكلم بها الإنسان الأول وتوارثها أبناؤها وأحفاده من بعده. فهل كانت
تلك اللغة الأولى توقيفية-أي هبة من الله للإنسان، أم اصطلاحية ابتدعها الإنسان؟
التساؤل الثاني
: أنه مع التسليم بوجود وحدة شاملة للجنس البشري منذ البدء، فأي شيء أدى إلى تفكك
تلك الوحدة إلى تعددية لغوية على الأخص؟
نص القصة
الإصحاح الحادي
عشر
« وكانت الأرض
كلها لسانا واحدا ولغة واحدة. وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار
وسكنوا هناك. وقال بعضهم لبعض هلم نصنع لبنا ونشويه شيا. فكان لهم اللبن مكان
الحجر وكان لهم الحمر مكان الطين. وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه
بالسماء. ونصنع لأنفسنا أسما لئلا نتبدد على وجه الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة
والبرج اللذين كان بنو ادم يبنونهما. وقال الرب هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم
وهذا ابتدائهم بالعمل . والان لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه . هلم ننزل
ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل
الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دعي اسمها بابل، لأن الرب هناك بلبل لسان كل
الأرض ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض ».
وتفصح القصة عن
سبب بناء المدينة والبرج. وهو السبب الذي يتمثل في رغبة بناة البرج أن يصنعوا
لأنفسهم «اسما» خوفا من تشتتهم على وجه الأرض. وعندما شرع «بنو ادم» في البناء نزل
يهوه الرب ليرى بنفسه المدينة والبرج اللذين كان يبنيهما بنو آدم، وهنا أدرك يهوه
خطورة الموقف، حيث أن بناء المدينة والبرج (من وجهة نظره) كان يمثل ابتداء بني
الإنسان بالعمل، وهنا قرر يهوه حماية لنفسه ولملكوته من طموحات البشر أن يفرقهم
على وجه الأرض، وكان ذلك عبر بلبلة لسان البشر الواحد فتعددت لغاتهم وبالتالي
تفرقوا في كل أنحاء الأرض.
ويرى ريتشارد
ويلسون أن قصة برج بابل هي قصة تعليلية تأسست بكاملها على مفهوم أخلاقي صرف
للعالم، كما أنها تعتبر تفسيرا معقولا حول شساعة العالم واختلاف ألسنة سكانه.
وتعليقا على
هذا الرأي يتفق الكاتب مع ويلسون في كون القصة تقدم تفسيرا لاختلاف اللغات في ذلك
الزمن القديم، ويختلف معه في اعتبار قصة برج بابل تأسست على مفهوم أخلاقي صرف
للعالم، ذلك أن القصة لا تعرض لأي خطيئة ارتكبها البشر، ذلك أن عقاب يهوه للبشر
ببلبلة ألسنتهم هو مجرد خوف يهوه وغيرته من وحدة البشر في ذلك الزمن وهذا تفسير
بعيد.
ويتفق الباحثون
المحدثون في أوروبا، وكذلك في الأوساط اليهودية المستنيرة، على اعتبار قصة برج
بابل أسطورة شعبية، لا تحكي واقعا تاريخيا بقدر ما تلتمس تعليلا فنيا لاختلاف
الألسنة واللغات. وهذا الرأي هو الأصوب والأقرب إلى الحقيقة العقلية، حيث أن محرري
التوراة لم يشهدوا ذلك الحدث، وإنما نقلوه متواترا شفاهة لقرابة خمسة قرون قبل أول
تدوين لها وهذا الطابع الشفاهي ما أضفى عليها صبغة الأسطورية التي هي من مميزات
الرواية الشفهية.
ويذكر
«إمانويلوفيتش» أن قصة برج بابل تتألف من ثلاثة عناصر : أولها رواية بدائية عن اصل
الأمم المختلفةا، وثانيها تفسير لتفرق لغات هذه الأمم، وثالثها رواية عن أصل
الخطيئة بالمنافسة الأنانية للرب.
ويرى «أندري
بارو» أن «زقورات» بلاد النهرين كانت هي النموذج الأصلي الذي أخذت عنه التوراة
صورة برج بابل مستندا في ذلك الى اجماع العلماء على أن «شنعار» الواردة في القصة
هي نفسها بلاد النهرين، حيث أن نفس مواد البناء المستعملة في بناء برج بابل في
القصة هي نفسها المستخدمة في بناء الزقورات البابلية.
وفيما يتعلق
باللغة الواحدة التي أشارت اليها الفقرة الأولى من القصة، لم يذكر محررو التوراة
شيئا عن طبيعة ومسمى تلك اللغة التي يفترض أنه تكلم بها آدم وحواء في الجنة مع
الإله والتي ظلت لغة واحدة للجماعات البشرية حتى بناء البرج المذكور في القصة،
وهنا يذكر الكاتب رأي جيمس فرايزر الرافض لأطروحة أن اللغة العبرية هي أصل اللغات
الإنسانية أو اللغة الأولى للإنسان والذي تبناه آباء الكنيسة بكل سهولة ولم
يعارضوه كما تبناه الكثير من الباحثين المسيحيين، ويتفق الكاتب مع جيمس فرايزر في
طرحه مستندا على أدلة منها : أولا أن جميع الشعوب كان لديها أسطورة مشابهة لقصة
برج بابل تفسر عن طريقها اختلاف لغات البشر انشعابا عن لغة واحدة أصلية وهي اللغة
الأولى لجميع البشر.
ثانيا : توصل
الباحثون وعلماء اللغات الى أن هناك لغات قديمة جدا الى درجة يصعب تحديد تاريخ
نشأتها ومنها العربية القديمة والكنعانية والبابلية والمصرية القديمة
والسنسكريتية.
وبعد عرض هذه
الآراء والتعليقات على القصة في مجملها، يمكن تحليل العناصر التي تتكون منها قصة
برج بابل، على النحو التالي :
أولا : بناة
البرج :
لقد تم التعبير
عن بناة البرج بعبارات غامضة وضمائر من قبيل سكان الأرض، بنو آدم، (ارتحالهم،
سكنوا، عليهم، ينوون...) الأمر الذي يطرح الكثير من التساؤلات بشأنهم : هل كانت
تلك الجماعة هم أحفاد آدم من الأجيال الثمانية التي أعقبت وفاته وحتى ما قبل حدوث
الطوفان ؟ أم كانت هذه الجماعة هي بقية البشر الناجين من الطوفان وبينهم أبناء نوح
الثلاثة-سام وحام ويافث- الذين يمثلون رؤوس السلالات البشرية ومعهم أحفاد نوح؟ ومن
أين أتت تلك الجماعة؟ وهل كانوا بدوا أم من سكان البيئات البحرية والنهرية؟
وللاجابة على
تلك التساؤلات، لابد من الاعتماد على مبدأ الافتراض أولا ثم الإجابة عليه بشكل
تقريبي ومن أهم الفرضيات الفرضية القائلة بأن بناة البرج كانوا هم بقية البشر
الناجين من الطوفان والذين يتوافق عددهم مع فكرة الارتحال الجماعي ومن المشكلات
التي تعترض هذه الفرضية القول بأن قصة برج بابل جاءت بعد جدول أنساب آخر في
الاصحاح العاشر من سفر التكوين، يتضمن الإشارة الى السلالات التي تشعبت عن أبناء
نوح الثلاثة.
ولما كان جدول
الأنساب يسبق قصة برج بابل في ترتيب الإصحاحات في التوراة، فان معنى ذلك أن تفرق
لغات البشر وتفكك وحدة الجنس البشري قد حدثا قبل واقعة بناء برج بابل. الا ان هذه
المشكلة يمكن حلها ببساطة بالقول بأنه قد حدث خطأ وخلط في ترتيب الاصحاحات، وتداخل
في القصص عند تدوين التوراة، فبدلا من وضع قصة برج بابل قبل جدول الأنساب الوارد
في الاصحاح العاشر، وضعت بعده بما يخالف السياق المنطقي للأحداث.
أما عن تساؤل :
«من أين أتت تلك الجماعة البشرية» ؟، فيمكن القول بأنه وفقا لقصة الطوفان، فقد
استقر فلك نوح على جبال «أراراط» التي أجمع الباحثون على أنها تقع في «أرمينيا».
كذلك أشارت قصة الطوفان أيضا الى استقرار نوح في المكان الذي رست عليه السفينة ولم
يرتحل منه، بدليل الفقرة التي تلت انتهاء أحداث الطوفان والميثاق بين الرب وبني
الانسان، وهي التي تنص على : «وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما...» (تكوين 9 :
20)، أما ارتحال تلك الجماعة البشرية فكان من أرمينيا الى بلاد النهرين أو «
شنعار» باتجاه الجنوب الغربي .
وأما التساؤل
عن طبيعة تلك الجماعات البشرية، وهل كانوا بدوا أم من سكان الحضر من البيئات
الزراعية النهرية أو الساحلية، فانه يمكن القول بانه استنادا الى الفرضية القائلة
بأن «شنعار» هي بلاد النهرين، وهي منطقة نهرية زراعية خصبة، فان هذا يوحي بشدة بأن
تلك الجماعة البشرية كانوا من البدو الذين ارتحلوا الى بلاد النهرين هربا من جدب
الصحراء وسعيا الى المناطق الخصبة.
ثانيا : الاله
(يهوه) :
يغلب ورود
الاله (يهوه) في هذه القصة مقترنا بالأفعال في صيغة المفرد الغائب
(فنزل-وقال-فبددهم-بلبل)، بما يوحي بانفراده بتلك الأفعال ويؤكد على وحدانيته. الا
أن الفقرة السابعة من القصة تثير إشكالية تجعلنا نراجع موقف الوحدانية ذلك. فقد
وردت الأفعال في هذه الفقرة في صيغة جمع المتكلمين إضافة الى استخدام كلمة (هافا)
بمعنى هيا وهلم مع الفعل ويتضح ذلك في الفقرة السادسة : «هلم ننزل ونبلبل لسانهم»
ولم ترد هذه الصيغة في هذا الموضع وحسب بل
في مواضع كثيرة من التوراة، وهذا ما يدل على وجود مجلس الاهي يستشير معه الاله
«يهوه» وهذا المجلس مصرح به في كثير من المزامير
«الله قائم في
موضع الله، في وسط الآلهة يقضي» (مزمور : 82 : 1).
أما فيما يتعلق
بكيفية تصوير الرب في هذه القصة فنجدها محملة بالكثير من الصفات والأحسيس البشرية
من قبيل النزول من الفوق الى الأرض ومن قبيل أحاسيس الغيرة والخوف، وهذا قصور في
الذات الإلهية.
ثالثا :
الخطيئة :
تطرح قصة برج
بابل حادثة بلبلة اللسان الواحد للبشر، باعتبارها عقابا في جانب منها، ودرءا لما
يمكن أن تسفر عنه الوحدة البشرية في ذلك الزمان تجاه الإله في جانب آخر، وهنا يمكن
التساؤل : عل وحدة البشر العرقية واللغوية تعد إثما؟ وهل تعد عمارة الأرض ببناء
المدينة والبرج إثما أيضا ؟
اختلفت أراء
الباحثين في هذه المسألة بين مؤيد للخطيئة ومعارض لها فيرى مثلا ميرا سيف أن خطيئة
البشر في هذه القصة تتمثل في وقاحتهم باعتقادهم أنهم قادرون على بناء برج رأسه
بالسماء، وفي غرورهم بأن تمنوا أن يصنعوا لأنفسهم اسما، ويشير اتجاه اخر من
الباحثين الى أن رغبة البناة في البقاء مجتمعين في مكان واحد والذي هو البرج يخالف
إرادة الرب المتمثلة في التوالد والتكاثر والانتشار في الأرض، ومن خلال آراء
الفريقين يمكن القول أن عنصر الخطيئة غير واضح في القصة وأن ما اعتبر على أنه
خطيئة هو تفسير أسطوري لا منطقي لمسألة اختلاف اللغات عند الانسان.
رابعا :
المدينة :
من سياق القصة،
يتضح أن إطلاق الاسم «بابل» على المدينة لم يحدث سوى بعد حادثة البلبلة، كما أنه
ارتبط بنفس الحادثة ارتباط العلة بالمعلول. فالمعلول هو «اسم المدينة»، والعلة لأن
الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، كما أن الارتباط بين العلة والمعلول قام على أساس
التشابه اللفظي فالفعل بالعبرية هو (بالَلْ) وبالعربية بلبل وهنا نلاحظ التقارب
اللفظي بين كل من الفعل العبري والعربي والاسم بابل.
وعلى الرغم من
ربط كتاب سفر التكوين الاسم بابل بالفعل العبري الدال على «البلبلة»، الا أنه في
أغلب الظن كان الاسم بابل يعني عند البابليين باب إيل أو باب الرب، والذي يعطي
للباب أو المدينة قيمة ومكانة رمزية وهو ما عمد سفر التكوين على سلبه منها حيث
ربطها بفعل البلبلة وهو ما انتقص من قيمتها.
خامسا : البرج
:
من أهم الأسئلة
التي تتبادر الى الذهن عند قراءة قصة برج بابل سؤال : لماذا لم تكتف تلك الجماعة
البشرية، التي وصلت إلى سهل شِنْعار ببناء المدينة فقط، وقررت بناء البرج؟
وتعليقا على
قول «م.ج. إيستون» بأن رغبة بناة البرج ي أن يكون بنيانهم نقطة تجمع في تلك
المنطقة لينزح إليها أقاربهم من أرمينيا هي محل شك، وذلك للاعتبارات التالية :
1-منطقة شنعار
تشبه من الناحية الجغرافية أرمينيا في سهولها الخصبة فما الدافع لهجرة السكان منها الى
شنعار،2-اعتبار الافتراض السابق بأن نشوء النزاع بين الجماعة الوافدة الى شنعار
وأقاربهم في أرمينيا هو سبب الهجرة الى
شنعار، أما في حالة خوف الجماعة الوافدة الى شنعار من تشتتهم خارج الحدود هو
الدافع لبناء برج بابل كعلامة لتجمعهم فيمكن الإجابة عليه بأن بناء المدينة يكفي
كمعلم لأن المنطقة سهلية وأي بناء يبرز فيها بشكل واضح.
ومن ناحية
أخرى، زعم اتجاه آخر من الباحثين أن الهدف من بناء البرج هو اقتحام السماء، هذا
الهدف بربطه بفكرتي الخطيئة والعقاب ربما كان أقرب الى الصواب حسب الكاتب، ويعضد
هذا الافتراض عدة أسانيد : 1- أن الانسان منذ القدم كان يتطلع الى عالم السماوات
إما لاكتشاف ما فيها وإما للبحث عن إله مرئي محسوس في تلك السماء. 2-فيتمثل في تلك
القصة التي رواها المؤرخ اليهودي «يوسيفوس»، من أن «نمرود بن كوش بن حام بن نوح»
هو الذي بنى البرج ليثأر من الاله لأجداده المغرقين في الطوفان، وهذه القصة سواء
صحت أو لم تصح إضافة الى روايات تاريخية من هذه القبيل تبقى دليل قاطع على وجود
وحضور فكرة الانتقام من الله والصعود اليه عبر بناء برج شامخ.
أما على
المستوى الرمزي، فقد اختلف الباحثون بصدد رمزية برج بابل فمنهم من رأى أن البرج
كان يرمز إلى المعرفة والقوة والغرور الزائدين للإنسان ولأن اللغة كانت هي الوسيلة
الأولى لتحقيق غاياته الطموحة أمر الرب بكبح غروره عبر بلبلة لسانه، ومنهم من ذهب
الى اعتبار برج بابل رمزا للمدن والامبراطوريات التي انتهى الأمر بدمارها، ومنهم
من رأى أن برج بابل يرمز الى طموحات الإنسان القديم باقتحام عالم السماوات بشكل
خاص واكتشاف اسراره وهو رأي الكاتب .
وبعد هذا العرض
التحليلي للقصة العبرية (برج بابل)، يمكن تقديم الشواهد والدلائل على أسطورية هذه
القصة الواردة في متن التوراة، وذلك من خلال تطبيق بعض المفاهيم والسمات النظرية
للأسطورة على القصة التي بين أيدينا، وذلك على النحو التالي :
أولا : من خلال
التعارف السابقة للأسطورة يتضح أنها تنطبق بكل مدلولاتها على قصة برج بابل، فقد
عبّرت القصة عن الانسان في الزمن البدائي القديم، كما أنها تعد شرحا لظاهرة
اجتماعية هي اللغة، فحكت عن أصلها الأول ثم انشعابها بعد ذلك من خلال الحدث الممثل
في بناء البرج. أيضا فقصة برج بابل تحكي عن تحول اللغة من الواحدية الى التعددية،
ومن هنا تطرقت الى الحديث عن تحول الوحدة الأصلية للجنس البشري الى تعددية من
الشعوب.
ثانيا : من
ناحية وظيفة الأسطورة :
من وظائف
الأسطورة الوظيفة التفسيرية، ولا يخفى ما تحمله قصة برج بابل من تفسير واضح، وان
كان تفسيرا أسطوريا، لمسألة تعدد اللغات.
ثالثا : من
ناحية سمات الأسطورة :
تتعدد سمات
الأسطورة تعددا كبيرا، ومن بينها أن الأسطورة تتسم بمجهولية المؤلف، وهذا ما نجده
في قصة برج بابل حيث أنها تأتي ضمن أحد أسفار التوراة التي ترجع الى أربعة
مصادر(اليهوى-الالوهيمي-الكهنوتي-التثنوي). هذه المصادر في أغلب الظن عبارة عن
روايات شفاهية جرت على ألسنة الناس.
ومن السمات
أيضا غموض الأصل، وهذا حاضر في قصة برج بابل حيث أنه لا يعرف على وجه التحديد أو
التقريب على يد من نشأت، وعلى يد من صيغت للمرة الأولى، أما غموض المعنى فيتجلى في
اللامنطقية واللامعقولية الأحداث التي تطبع القصة.
ومن سمات الفكر
الأسطوري أنه فكر ما قبل منطقي وعلله لا منطقية وإنما هي علل باطنية غامضة. ومنطق
الأسطورة لا يتلائم مع تصوراتنا عن الحقيقة التجريبية والعلمية، وبالنظر الى قصة
برج بابل في تفسيرها لظاهرة اختلاف لغات البشر نجد أنها تقوم على علل باطنية غامضة
وغير منطقية تتمثل في غيرة الاله من وحدة البشر ففرقهم وهذا يخالف التفسير العلمي
لظاهرة اختلاف الألسن.
وسمة اللامعقول
هي الأخرى واضحة في القصة، حيث لا يتصور أن تتفرق لغات البشر في لحظة واحدة ولسبب
غير معقول.
والتصور
الأسطوري للعالم، إنما هو تصور درامي يقوم على أساس من الصراع المحتوم بين الإنسان
والقدر. كذلك فعالم الأسطورة نفسه هو عالم درامي، عالم من الأحداث والقوى
المتصارعة، ويبدو عنصر الدراما في قصة برج بابل واضحا، حيث الصراع بين الإنسان
(بناة البرح) وبين القدر(قضاء يهوه بتبديدهم على وجه الأرض وبلبلة لسانهم).
تتسم الأسطورة
بخاصية «التعالي» أي الإفلات من قيود الزمان والمكان والتجربة اليومية الواقعية
وتحديداتها. فطريقة سرد الأسطورة تنحى منحى بعيدا عن الزمن العادي وتتصف بنمط
لامكاني، وهاذ ما نجده في قصة برج بابل حيث تاريخ الأحداث مجهول وذكر الأماكن
عبارة عن وصف عام كقول الشرق والغرب وهذا يخالف التدقيق العلمي.
ويمكن تصنيف
أسطورة برج بابل ضمن نوعين من الأساطير وهما : أسطورة التحول، والحكاية التعليلية.
أما أسطورة
التحول، فتخبرنا عن التغيرات الجذرية في بنية العالم وفي النموذج الوجودي للإنسان،
ذلك التغير الذي حدث في قصة برج بابل عبر تغير لغة الانسان التي انشعبت من واحدة
الى لغات كثيرة، وأما الحكاية التعليلية، فهي تشرح أصل عادة ما أو أصل حالة فريدة،
أو العالم البشري أو العالم الإلهي، وقصة برج بابل تقوم في الأصل على بيان التحول
الجذري في النموذج الوجودي للإنسان عبر تعليل ذلك التغير.
ويبقى في
النهاية التساؤل : هل تعتبر أسطورة برج بابل إبداعا عبرانيا خالصا، أم أنها اقتباس
من تراث الشعوب المجاورة التي عاش العبرانيون مجاورين لها أو في وسطها ؟
لقد ثبت
تاريخيا اتصال العبرانيين ببلاد النهرين في مراحل زمنية مختلفة بالجوار أو بالحياة
وسط شعوب بلاد النهرين، إذن فالأمر ينحصر بين الأسطورة التوراتية وتراث بلاد
النهرين.
ولما كان
المأثور السومري المنتمي لبلاد النهرين، يعتبر أقدم من الناحية التاريخية من القصة
العبرية، فانه يجوز القول بأن قصة برج بابل التوراتية تعد اقتباسا عبرانيا من تراث
بلاد النهرين.
ومما يؤكد هذا
مرة أخرى الدليل الجغرافي أو الدليل البيئي الذي يتمثل في كون الأسطورة تتعلق بشعب
زراعي يسكن مناطق نهرية خصبة، ويعرف الاستقرار وبتاء المدن والأبراج بما يعني
تقدمه في فن العمارة وكان هذا هو حال شعوب بلاد النهرين، أما العبرانيون
فكانوا طوال حياتهم تقريبا قبائل بدوية
تعرف بالارتحال والاستقرار المؤقت.
الفصل الرابع
صراع يعقوب مع
الله
تمهيد :
عرف القصص
الشعبي- وبخاصة الأساطير- في العالم القديم فكرة صراع البشر ضد الآلهة. وأبرز ما
وصلنا في هذا الشأن من تراث الشرق الأدنى القديم، ملحمة جلجامش الرافدية التي يرجع
تاريخ تدوينها الى نصوص سومرية قديمة بتاريخ (2300-2100 ق.م).
وأما العهد
القديم، فعلى الرغم من امتلائه بالأساطير وبالعديد من صور الأدب الشعبي، الا أنه
لم يتضمن أية قصة تشير الى فكرة صراع البشر ضد الإله، سوى في موضع واحد، هو القصة
التي حكيت عن يعقوب في صراعه ضد الله.
نص القصة
ثم قام في تلك
الليلة وأخد امراتيه وجاريتيه وأولاده الأحد عشر وعَبَرَ مَخَاضَةَ يَبوقَ. أخذهم
وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له، فبقى يعقوب وحده. وصارعه إنسان حتى طلوع الفجرِ.
ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضَرَبَ حُقّ فخذه. فانخلع حُقُّ فخذِ يعقوب في مصارعتهِ
معه . وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني. فقال له ما
اسمك. فقال يعقوب. فقال لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل. لأنك جاهدت مع
الله والناس وقَدَرْتَ. وسأل يعقوبُ وقال أخبرني باسمك فقال لمذا تسأل عن اسمي.
وباركه هناك.
فدعا يعقوب اسم
المكان فنيثيل[1]
أو فنيئيل. قائلا لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيتُ نفسي. وأشرقت له الشمس إذ
عَبَرَ فنوئيل وهو يخمع على فَخذه. لذلك لا يأكلُ بنو إسرائيل عرق النسا الذي على
حق الفخذ الى هذا اليوم. لأنه ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النّساَ.
ومضمون القصة
هو أن يعقوب صارع كائنا غريبا أو رجلا حسب القصة، وظل العراك بينهما سجالا حتى شعر
ذلك الكائن المجهول بأنه لا يستطيع التغلب على يعقوب فضربه على فخده فأصيب يعقوب
في عظام فخده، ورغم ذلك ظل يعقوب متشبثا بذلك الكائن حتى طلب منه هذا الأخير أن
يطلقه لأن الفجر قد طلع، لكن يعقوب أصر أن لا يطلقه حتى يباركه ففعل ذلك وطلب منه
تغيير اسمه من يعقوب الى إسرائيل وأثنى عليه عليه بأنه استحق ما ححقه من إنجاز في
تلك الليلة بأنه جاهد مع الله ومع الناس ونجح في ذلك، وختمت القصة بالنص على شريعة
تحريم عرق النسا لأنه من الفخد وهو مكان إصابة يعقوب.
ونظرة أولية
على هذه القصة، تجعلنا نقع بيت شقي رحى، شقها الأول «الغموض» وشقها الثاني «
العناصر اللامنطقية غير المترابطة في القصة».
أما العناصر
اللامنطقية الغير المترابطة فيها فتتمثل في :
أولا : سبب
تخلف يعقوب عن أهله هو سبب غامض، لا يمكن استنباطه من القصة أو تخمينه، وبخاصة أنه
كان على يعقوب ألا يتخلف عنهم، لأنه كان يدرك تماما أنه في طريقه الى ملاقاة أخيه
الأكبر «عيسو» الذي كان يعتزم الثأر من يعقوب ومن هنا يتضح أن سبب تخلف يعقوب عن
أهله وبقائه وحده هو اختلاق من قبل كاتب القصة ليمهد المسرح للصراع بين يعقوب
والكائن المجهول .
ثانيا : لم
تمهد القصة لظهور الكائن المجهول الذي صارع يعقوب، وهنا يأتي عنصر المفاجأة
«الشديدة»، حيث تعقب الجملة التي تنص على بقاء يعقوب وحده مباشرة، الجملة القائلة
: «وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر»، وهذا ما يدفع الى القول بانعدام التسلسل
والترابط المنطقي للحدث الدرامي في القصة.
ثالثا : تناقضت
القصة واضطربت بشأن الكائن الذي تصارع معه يعقوب، هذا التناقض والاضطراب أحدث
الكثير من الغموض فيما يتعلق بهوية ذلك الكائن، حيث أقرت في البداية بأن ذلك
الكائن «إنسان» باستخدام اللفظ العبري «إِيْشْ» الذي يعني إنسان أو رجل، وبجانب
ذلك أوحت القصة إيحاءا قويا يإنسانية ذلك الكائن، من خلال تصويرها للصراع بينه
وبين يعقوب على أنه صراع متكافئ القوى، إلا أن هناك بعض الوقائع والسمات التي
تتعلق بذلك الكائن تجعلنا نراجع الموقف بخصوص هويته والتي تتمثل في ثلاثة أشياء
:1- الطريقة المفاجئة جدا التي ظهر بها
الكائن دون إحداث أي صوت أو منبه،2- رغبة ذلك الكائن في أن يطلقه يعقوب لأن
الفجر قد طلع، 3-ما أوحت به القصة من قدرة الكائن على منح البركة.
هذه السمات
التي أضفتها القصة على ذلك الكائن لا تتوافر في البشر بشكل عام، فيما عدا السمة
الثالثة (منح البركة) والتي يختص بها الأولياء والصلحاء، وإذا استثنينا هذه السمة
الأخيرة فإن توافر السمتين الأوليين يدفعنا الى القول بحذر أن مصارع يعقوب كان
جنيا ظهر فجأة متجسدا في صورة بشرية، وما يؤكد ذلك أن الصورة المستقرة للجن في
الخيال الشعبي تتماثل كثيرا مع سمات هذا الكائن.
من هنا يمكن
القول أن الكائن الذي صارع يعقوب كان جنيا، الا أن القصة لا تجعلنا نسترسل فيهذا
الاعتقاد، حيث أن سمة البركة لا تمت بصلة الى الجن، وهذا يعيدنا مرة أخرى الى
دائرة الغموض حول هوية الكائن.
وفي محاولة من
جانب كاتب القصة لفك رموز الغموض الذي أوقعنا فيه، نصت القصة بعد ذلك كله على أن
يعقوب صارع الله كما جاء في القصة : «لأني نظرت الله وجها لوجه»، وهنا نطرح
الأسئلة التالية : إذا كان مصارع يعقوب هو الله فكيف يتجلى في صورة بشرية؟ وكيف
يرتبط ظهوره بالليل دون النهار؟ وكيف تتساوى قوته مع قوة مخلوقه يعقوب؟ وكيف لا
يستطيع الإفلات من يعقوب عندما تشيت به وطلب بركته؟ وكيف لم يعرف اسم يعقوب، وهو
الذي جاء خصيصا لتغييره؟
إن الإجابة على
كل هذه التساؤلات تنفي بشدة أن يكون الكائن الذي صارع يعقوب هو الله، وما ذلك إلا
نوع من الأنثروبومورفية الفجة (تصوير الاله بصورة بشرية). فلو أراد الله أن يبارك
يعقوب ويغير اسمه الى إسرائيل، لفعل ذلك عن طريق الحلم أو الوحي أو رسول من
الملائكة، ومن هنا يتضح لنا أن هذه الفقرة (30)
من الاصحاح الثاني والثلاثين من سفر التكوين والتي نصت على أن الله هو
مصارع يعقوب هي زيادة مقحمة على القصة الأصلية، اقتبسها كاتب القصة من نص آخر
يتعلق بتغيير اسم يعقوب الى إسرائيل ومباركة الله إياه، وهو النص الوارد في
الفقرات (15-9) من الاصحاح الخامس والثلاثين من سفر التكوين، وهذا النص هو الأص
والمرجع في باب مباركة الله ليعقوب وتغيير اسمه الى إسرائيل.
أما القصة
ذاتها (صراع يعقوب مع الله)، فيمكن القول بأنها كانت مجرد إعادة صياغة للنص الديني
الوارد في الإصحاح (35)، اتخذت شكلا قصصيا ينقصه فنية القص، فجاءت محاولة قصصية
غير مترابطة العناصر، غامضة ويبدو أن السبب في ذلك، هو مادية العقلية العبرانية
وارتباطها بالحسي دون المعنوي، مما جعل كاتب القصة يحول النص الديني الذي يرتبط
بالمعنوي بشكل أكبر الى نص قصصي جسد فيه المعنوي (العلاقة بين الله ويعقوب) في شكل
مادي صراعي.
أما عن تصنيف
القصة بين أنواع الأدب الشعبي، فإنها-بوضعها الحالي الذي تناولناها به- تندرج تحت
ثلاثة أنواع :
النوع الأول :
الأسطورة. وتندرج القصة تحته باعتماد الإشارة الى أن مصارع يعقوب هو الله، وهي أسطورة تنتمي الى ذلك النوع
الذي يحكي عن صراع البشر ضد الآهة، مثل أسطورة جلجامش.
النوع الثاني
:الحكاية الشعبية. وتندرج القصة تحته، إذا نظرنا الى مصارع يعقوب على أنه جني. وهي
في هذا تشبه العديد من الحكايات الشعبية التي يتصارع فيها الانسان مع الجن مثل
حكايات ألف ليلة وليلة.
النوع الثالث :
الحكاية التعليلية، وذلك بالنظر إلى سمة التعليل الواردة في القصة لكل من : شريعة
تحريم أكل عرق النسا، واسم المكان فنيئيل، وتحول اسم يعقوب إلى إسرائيل.
الفصل الخامس
العذراء
القربان
تمهيد :
بدأ الكاتب هذا الفصل بتمهيد يبرز فيه أن المجتمعات
البشرية قد عرفت منذ القدم فكرة القرابين البشرية، التي كانت تتمثل في تقديم
القبيلة أو الأسرة أحد أفرادها قربانًا للآلهة، استرضاء لها من ناحية، ودرءاً
لغضبها من ناحية أخرى. غير أن تقدم العقل البشري وتقدم الفكر الديني لدى الشعوب
القديمة التي أرسل الله لها رسلا من البشر على فترات متقطعة من التاريخ الإنساني
وفي أنحاء متفرقة من العالم القديم، قد عمل على تصحيح المنحرف من العقائد، كل هذا
أدى إلى اختفاء تلك العادة البشعة.
وقد أكد الكاتب على أنه سيقتصر على عرض موجز لفكرة
القربان البشري في منطقة الشرق الأدنى القديم وكذلك في اليونان القديمة، نظرا لأن
الـبـحـث فـي هـذه المسألة هو أمر شاق ومتعب مشيرا إلى أن الـبـاحـثـيـن في مسألة
القرابين حـسـب مـا ذكـر "د. سيد القمني"[2] قد
انقسموا إلى فريقين حول التطور التاريخي لمسألة القربان: فريق يرى أن القربان في
بدايته تمثل في تقديم الثمار للآلهة، ثم ارتأى الإنسان أن يذبح لها من ماشيته على
اعتبار أن اللحم أعلى مرتبة من النبات ثم
تحول بعد ذلك نحو الدماء البشرية بشكل جزئي، حيث كان يُسيل بعض دمه بجرح
مقصود على مذابح الآلهة تقربا وفداء لنفسه وأولاده ومـمـتـلـكـاتـه ثم انتقل الأمر
في النهاية إلى القربان البشري الكامل الذي اتخذ هيئة "النذر" حيث كان
الإنسان يذبح أحد أبنائه تـقـربـا للآلهة أو شكرا لها على استجابتها لرجائه أو
دفعًا لشر محتمل الحدوث. أما الفريق الثاني، فيعكس الأمر حيث يذهب إلى أن البداية
كانت بالقربان البشري، وبالتدرج الارتقائي في تطور العقل البشري تحول الأمر نحو
الحيوان؛ الذي قدمه الإنسان عوضًا عن نفسه أو قبيلته وكان الإنسان أحيانًا يكتفي
بتقديم النبات في حالة احتياجه للحيوان.
وفى هذا الصدد يرى الكاتب أن مسألة القرابين البشرية يمكن
تتبعها وفق خط بياني متعرج صاعد تارة وهابط تارة أخرى، بحيث يمكن القول إن التضحية
بالبشر كانت تخضع أولا وأخيرا لمدى صحة العقيدة الدينية أو انحرافها ومدى تطور
الفكر البشري وتراجعه، مستدلا على ذلك بالقربان الأول في تاريخ البشرية، وهو
القربان الذي قدمه ابنا آدم؛ حيث عرفت المجتمعات البشرية بعد ذلك فكرة القربان
البشري في أماكن متفرقة من الأرض وفي أزمان مـخـتـلـفـة، بل إن بعض الشعوب عرفته
في فترة من تاريخها ثم أقـلـعـت عـنـه، وبـعـض الـشـعـوب الأخـرى لم تـعـرفـه إلا
في مرحلة متأخرة من تاريخها.
في هذا الفصل
حاول الكاتب تسليط الضوء على تاريخ القرابين البشرية عند أمم الشرق الأدنى القديم
وعند الإغريق والتي جاءت على النحو التالي:
في مصر
القديمة، أورد الكاتب مجموعة من الحقائق التي تؤكد على عدم وجود القرابين البشرية
والتي يمكن عرضها على الشكل التالي:
-
أن القرابين الجنائزية التي كانت تقدم للشخص الميت ربما كانت أهم عند
المصري القديم.
-
أن القرابين التي كانت تقدم للآلهة، كانت تجمع بين الطعام والشراب (الماء-
اللبن - النبيذ) ومنتجات العطور كالبخور والزهور، وكذلك الأزياء والحلي والملابس.
-
أن حرق القرابين الحيوانية للآلهة لم يكن سوى لوصول رائحة الشواء للآلهة
فقط.
-
أن حرق القرابين الحيوانية كان يعد رمزا للقضاء على أعداء الإله فحسب”.
-
أنه لم توجد في مصر القديمة أية شعائر خاصة بذبح الحيوان وتقطيع الأجزاء
المخصصة للتضحيات وتوزيعها.
وفى بلاد النهرين، قدم الكاتب فكرة عن موضوع القرابين من
خلال بعض النصوص السومرية والبابلية التي يُـفـهـم مـنـهـا أن بـلاد الـنـهـريـن
قـد عـرفـت فـي مـرحـلـة ما من تاريخها القديم فكرة القرابين البشرية وأن تلك
الفكرة تم التحول عنها من القربان البشري إلى الحيواني في العصر السومري.
وفى سوريا القديمة، عرف الفينيقيون (سكان الساحل من
الكنعانيين) فيما يؤكده «كونتنو»- طقوس التضحية البشرية: حيث كانت التضحية بالابن
البكر عرفا جاريا لدى الكنعانيين في عصورهم القديمة، كما أنهم احتفظوا بذلك العرف
حتى عصورهم المتأخرة، حيث روى «فيلون الجبيلي» أنه كان من عادة الكنعانيين التضحية
بأعز أبنائهم لإبعاد الكوارث عن أنفسهم. أما في الأحوال العادية، فإنه كان
بإمكانهم إحلال القربان الحيواني محل الضحية البشرية، وهذه المعلومات عمومًا معطاة
تحت التحفظ العلمي.
وجدير بالذكر أنه في طريق تطور القربان من «البشري» إلى
«الحيواني» عند الساميين، كانت هناك محطة على طريق ذلك التطور تتمثل في تحول
القربان البشري بالتضحية بالشخص كاملا- إلى نوع من إراقة دم الشخص من جزء من جسده،
وهذا ما يؤكد عليه «سميث»، حيث يذكر أنه في طقوس الساميين القدماء وغيرهم من الأمم
القديمة والحديثة على السواء، أن العابد كان يريق دمه على مذبح الآلهة؛ كوسيلة
لنذر نفسه وصلواته للآلهة ويضرب سميث مثلا لذلك بقصة وردت في سفر الملوك الأول (الإصحاح
18 :28)، حيث كان أولئك الكهنة يجرحون أنفسهم أمام المذبح ليتقبل
"بَعَل" قربانهم، مستخلصا (أي سميث) من ذلك إلى أن إراقة الدم بدون قتل
كانت بديلا عن القربان البشري عند الأمم السامية.
وفى إيران كان الفرس القدامى في عهد ظهور الديانة
الزرادشتية حوالي منتصف القرن السابع قبل الميلاد، يـقــرِّبـون إلى الشمس وإلى
النار، وكـذلك إلى إلـهـهـم «أهورا مزدا» قرابين من الأزهار والـخـبـز والـفاكهة
والعطور، وكـذلك الـكـثـيـر من الحيوانات كالثيران والضأن والخيل وذكور الوعول،
وكانوا قبل ذلك قد عرفوا كغيرهم من الأمم الضحايا البشرية التي يعتقدون حولها أن
الآلهة لا ينالها من تلك القرابين إلا رائحتها، لأنها ليست في حاجة إلا إلى روح
الضحية"
وفى الأناضول، عرف الحيثيون قرابين احترام الآلهة
واستعطافها، تلك القرابين كما يذكر «جارنى» تمثلت في بواكير الثمار والحيوانات
الحولية، إلا أنه عُرفت " أيضًا لديهم القرابين البشرية، من خلال أحد طقوس
التطهير التي عرفها الحيثيون عند الهزيمة العسكرية، والتي تتمثل في هذا النص:
"إذا هزمت الجيوش من قبل العدو فعليها أن تؤدي طقسا وراء النهر... عليهم أن
يشقوا رجلا وعنزة وجروا وخنزيرا صغيرا ويضعوا نصفًا على هذا الجانب ونصفا على
الجانب الآخر...".
وفى اليونان القديمة، كان الإغريق يقدمون لآلهتهم ثمار
الحقول أو الكروم أو الأشجار وكثيرا ما كانوا يقدمون حيوانًا يشتهي الإلهُ طعمه،
وعندما تضطرهم الحاجة، كانوا يضحُون بالآدميين أنفسهم الذين يقذف بهم من فوق صخور
قـبـرص ولوكاس استرضاء للإله أبوللو وكان آخرون يقدمون قربانا للإله «ديونيسوس».
كذلك ظل «زيوس» كبير آلهة الأوليمب يتلقى قرابينه من الضحايا البشرية حتى القرن الثاني
بعد الميلاد، وعلى مر الزمان اقتصرت التضحيات البشرية على المجرمين المحكوم عليهم
بالإعدام، ثم تطور الأمر فيما بعد إلى الاستعاضة بالحيوانات بدلا من القرابين
البشرية. وقد عرف الإغريق أيضًا تقديم الأسرى كقرابين بشرية.
وعند عرب ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية فإنه على
الرغم من أن القرابين الحيوانية هي التي كـانـت أكـثـر ما يقدم للآلهة كهدايا
ونذور، إلا أنه عَـرَف نوعان من القرابين البشرية: النوع الأول يتمثل في تقديم
الأسرى قرابين للآلهة، مثل ما فعله «المنذر بن ماء السماء» ملك الحيرة بالأسيرات
الروميات اللائي سباهن بعد معركة طاحنة بـيـنـه وبين الروم والغساسنة، حيث قدمهن
قربانا. أما النوع الثاني فقد تمثل في تقديم أحد الأبناء قربانًا على سبيل النذر.
ومثال ذلك، قصة نذر عبد المطلب بن هاشم أن يذبح أحد
أبنائه عند الكعبة قربانا لله، إن كمل عددهم عشرة أنفس، وما كان من خروج القداح
على ابنه عبد الله، ثم نجاته بعد خروج القداح على الإبل.
أما بنو إسرائيل، فإنه بقراءة كتابهم المقدس (العهد
القديم)، يتضح أن تطور فكرة القربان لديهم كانت على عكس معظم الشعوب القديمة التي
ارتقت بفكرة القربان البشري، وحولتها إلى قربان حيواني، فالأمر لديهم اتخذ شكل
الانحدار والتراجع نحو البدائية عكس مسيرة التاريخ، ويمكن إيضاح ذلك على النحو
التالي:
-
ورد في بداية التوراة الإشارة إلى القربان النباتي والحيواني: على أنه
القربان المعروف، منذ بداية الحياة على الأرض، حـيـث نـصـت الـتـوراة عـلـى أن
«قايين، (قابيل) ابن آدم قدم قربانًا للرب من أثمار الأرض، كما قدم أخوه «هابيل»
من أبكار غنمه (تكوين 4: 3-4).
-
نصت التوراة أيضا على أن نـوحـا، بـعـد انـتـهـاء أحـداث الـطـوفـان
العصيبة، قدم قربانًا للرب من الحيوانات والطيور «الطاهرة» التي حملها معه في
الفُلك (تكوين 8: 2-21).
-
ورد في سفر التكوين أيضًا قصة «فداء إسحق من الذبح بكبش عندما امتحن الله إبراهيم
وطلب منه ذبح ابنه إسحق، (هذا من وجهة النظر التوراتية) ثم افتداه بالقربان
الحيواني (تكوين 22: 1-14)، وهذه القصة بذاتها جديرة بوضع أسس القرابين لدى بني
إسرائيل، باستبعاد التضحية البشرية إن كانوا قد عرفوها، وبما يفيد التحريم الضمني
للقرابين البشرية، وإقرار التضحية بالحيوانات على سبيل القربان، وهو ما شكل دستور
العقيدة والعبادات لدى بنى إسرائيل، فيما يتعلق بمسألة القرابين.
-
نصت الشرائع الموسوية - في سفر اللاويين- على أنواع القرابين. وفصلت في ذلك
تفصيلاً دقيقًا ببيان المحلل والمحرم من أنواع الحيوانات والطيور التي تقدّم على
سبيل القربان، والأجزاء التي تؤكل من الضحية دون سواها، وكيفية تقديم القربان،
وأنواع الذبائح وما إلى ذلك، حيث يؤكد الكاتب أنه على الرغم من تـعـقـيـد وصرامة التشريعات
الموسوعة الـواردة في الـتـوراة، إلا أنها لم تنص على تقديم أي نوع من القرابين
البشرية.
إن كل ما سبق من حقائق قدمتها التوراة نفسها كان كاف لإقرار شرائع القرابين
لدى بني إسرائيل وتثبيتها واستمرارها على مدى تاريخهم، وبخاصة أنها أُفرغت في قالب
تشريعي صار دستورا للديانة اليهودية، إلا أن ما حدث بعد ذلك هو العكس، حيث تدهورت
شريعة القربان في العصور اللاحقة، فقد عرف بنو إسرائيل الأضحيات البشرية في عصر
القضاة (كما يتضح من قصة ابنة يفتاح الجلعادي- وهي موضوع الفصل) وفى عصر
انقسام المملكة. كما يتضح من قصة تضحية الملك «آحاز بن يوثام» (735-715 ق.م) ملك
يهوذا، عندما أحرق أبناءه في النار قربانا للإله الكنعاني بَعَـل.
·
نص القصة: (ورد في سفر القضاة، الإصحاح
الحادي عشر الفقرات 30-40)
فَكَانَ رُوحُ
الرَّبِّ عَلَى يَفْتَاحَ، فَعَبَرَ جِلْعَادَ وَمَنَسَّى وَعَبَرَ مِصْفَاةَ
جِلْعَادَ، وَمِنْ مِصْفَاةِ جِلْعَادَ عَبَرَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ، وَنَذَرَ
يَفْتَاحُ نَذْرًا لِلرَّبِّ قَائِلًا: «إِنْ دَفَعْتَ بَنِي عَمُّونَ لِيَدِي،
فَالْخَارِجُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي عِنْدَ رُجُوعِي
بِالسَّلاَمَةِ مِنْ عِنْدِ بَنِي عَمُّونَ يَكُونُ لِلرَّبِّ، وَأُصْعِدُهُ
مُحْرَقَةً». ثُمَّ عَبَرَ يَفْتَاحُ إِلَى بَنِي
عَمُّونَ لِمُحَارَبَتِهِمْ. فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِهِ، فَضَرَبَهُمْ مِنْ
عَرُوعِيرَ إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى مِنِّيتَ، عِشْرِينَ مَدِينَةً وَإِلَى آبَلِ
الْكُرُومِ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا، فَذَلَّ بَنُو عَمُّونَ أَمَامَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ. ثُـمَّ أَتَى
يَـفْـتَـاحُ إِلَى الْمِصْفَاةِ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِذَا بِابْنَتِهِ خَارِجَةً
لِلِقَائِهِ بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ وَهِيَ وَحِيدَةٌ، لَمْ
يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلاَ ابْنَةٌ غَيْرَهَا، وَكَانَ لَمَّا رَآهَا أَنَّهُ
مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَقَالَ: " آهِ يَا بِنْتِي! قَدْ أَحْزَنْتِنِي حُزْنًا
وَصِرْتِ بَيْنَ مُكَدِّرِيَّ، لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّبِّ وَلاَ
يُمْكِنُنِي الرُّجُوعُ ". فَقَالَتْ لَهُ: " يَا
أَبِي، هَلْ فَتَحْتَ فَاكَ إِلَى الرَّبِّ؟ فَافْعَلْ بِي كَمَا خَرَجَ مِنْ
فِيكَ، بِمَا أَنَّ الرَّبَّ قَدِ انْتَقَمَ لَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ بَنِي
عَمُّونَ". ثُمَّ قَالَتْ لأَبِيهَا: " فَلْيُفْعَلْ لِي هذَا الأَمْرُ:
اتْرُكْنِي شَهْرَيْنِ فَأَذْهَبَ وَأَنْزِلَ عَلَى الْجِبَالِ وَأَبْكِيَ
عَذْرَاوِيَّتِي أَنَا وَصَاحِبَاتِي". فَقَالَ:
«اذْهَبِي». وَأَرْسَلَهَا إِلَى شَهْرَيْنِ. فَذَهَبَتْ هِيَ وَصَاحِبَاتُهَا
وَبَكَتْ عَذْرَاوِيَّتَهَا عَلَى الْجِبَالِ. وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ الشَّهْرَيْنِ
أَنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى أَبِيهَا، فَفَعَلَ بِهَا نَذْرَهُ الَّذِي نَذَرَ.
وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ رَجُلًا. فَصَارَتْ عَادَةً فِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّ بَنَاتِ
إِسْرَائِيلَ يَذْهَبْنَ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَنُحْنَ عَلَى بِنْتِ يَفْتَاحَ
الْجِلْعَادِيِّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ.
هناك خلفية تاريخية للقصة تتمثل في أنه بعد وفاة ثامن القضاة «ياثير
الجلعادي» تحول بنو إسرائيل عن عبادة إلههم القومي «يهوه» (يهوه هو اسم
الله المذكور في التوراة) إلى عبادة
البعليم والعشتاروت (آلهة الكنعانيين) وكذلك آلهة آرام وصيدون (صيدا) ومؤاب وبنى عَمّون والبلشت (الفلسطينيين). فسلط يهوه عليهم العمونيين (بني عمّون)؛
الذين اجتمعوا في جلعاد لقتال بني إسرائيل، فوقع اختيار بني إسرائيل على يفتاح الجلعادي» (تاسع
القضاة)
ليقودهم ضد العمونيين. وفى البداية رفض «يفتاح» بسبب طرد
إخوته من أبيه له وحرمانهم إياه من ميراث أبيه لأنه على حد تعبير السفر- كان «ابن زانية». إلا أنه عاد
وقبل أن
يقودهم في تلك الحرب شريطة أن ينصبوه قاضيًا ورئيسا لهم،
فوافق شيوخ جلعاد على ذلك وبادر «يفتاح» - الذي كان على حد تعبير السفر «جبارا»- بمفاوضة العمونيين
بالطرق السلمية في البداية إلا أنهم رفضوا وحشدوا جيوشهم لقتال بنى إسرائيل، فقرر
يفتاح
قتالهم. حيث يبدو أن يفتاح «الجبار» كان يشعر بالرهبة من قتال العمونيين. ولم يكن واثقًا من انتصاره عليهم. فنذر يفتاح
نذرأ لإلهه يهوه إن نصره في
حربه ضد العمونيين. فإنه سـيُـقرب له أول شخص يخرج من بيته للقائه عند عودته
قربانًا وهو ما حدث بالفعل، بعدما انتصر بالفعل عليهم فعند عودته إلى بيته كان أول
من خرج لاستقباله ابنته الوحيدة التي لم يكن له غيرها وكانت قد خرجت لاستقباله
بالدفوف وبالرقص وعـنـدمـا رآهـا يـفـتـاح شـق ثيابه وحزن حزنًا عظيما، إلا أنه مع
ذلك لم يستطع التراجع عن نذره، فأظهر ابنته بالأمر حيث تقبلت الأمر بنفس راضية
وشجعت أباها على المضي في الوفاء بنذره وطلبت منه أن يمهلها شهرين تبكي فيهما
عذريتها، ثم عادت لإنفاذ الأمر الذي قام يفتاح بالفعل بتحقيقه والوفاء بنذره
مضحيًا بابنته الوحيدة ومـقـربـا إيـاهـا قـربـانـا ليهوه. وصارت بعد ذلك عادة في
إسرائيل: أن تذهب بنات إسرائيل أربعة أيام في السنة إلى نفس الجبل» أو ربما إلى أي
جبل، لينحن على ابنة يفتاح الجلعادي.
ولـتـحـلـيـل هذه القصة؛ لابد من تحليل كل عنصر من عناصرها الأساسية على
حدة، وهي العناصر التي تبدو على النحو التالي:
أولا-الأب (المضحي)
الذي تميز بالقوة والجبروت والتأييد الإلهي، فحسب وصف القصة له فقد كان
«جبارا» كما كانت عليه روح الرب التي تومئ إلى التأييد الإلهي ليفتاح. إذن فبنية
القوة النفسية لدى يفتاح، تشكلت من مقومين أساسيين حسب الكاتب وهما: القوة البدنية
والتأييد الإلهي اللذان كانا سببا أساسيا في انحسار الخوف من شخصية يفتاح
واختفائه.
ثانيا-الابنة (الضحية)
كان موقف ابنة يفتاح اتجاه التضحية بها، موقفا شجاعا ورائعا، حيث تلقت نبأ
قتلها بيد أبيها في ثبات وشـجـاعـة فـائـقـيـن، هذا الموقف الـرائـع يقدم نموذجا
لشخصية شجاعة تتسم بإنكار الذات والإيثار كما يوحي في الوقت ذاته بأن القرابين
البشرية كانت أمرا عاديا لدى بني إسرائيل في ذلك العصر.
ثالثا-بشرية القربان
يثور تساؤل هام وملح: لـمـاذا نـذر يـفـتـاح لإلهه قـربـانًـا بـشـريًـا
ولم ينذر له قربانا حيوانيًا أو نباتيًا أو ما إلى ذلك؟ هناك فرضيتان تمثل إحداهما
الإجابة عن هذا التساؤل.
-
الفرضية الأولى: أن يفتاح عندما نطق بنذره أمام إلهه، لم يكن يقصد شخصا
محددا، وإنما كان يرى أن قيمة النذر لابد وأن تتكافاً مع قيمة شعوره بالخوف ورغبته
القوية في الانتصار، لذا فقد نذر يفتاح أضحية بشرية لقيمتها الأعلى بين الكائنات.
-
الفرضية الثانية: أن يفتاح عندما نطق بنذره كان «واعيًا» تماما وكان يضمر
السوء في الوقت ذاته، حيث يُفترض أنه كان يقصد بنذره ذلك؛ أن يكون أول خارج من
بيته للقائه واحدا من إخوته انطلاقا من رغبة قديمة في الانتقام من إخوته الذين
أذلوه وحقروا من شأنه، حيث لم يكن يرى في تلك اللحظة سوى إخوته، وهي الرؤية
الدموية التي أقصت ابنته الحبيبة من وعيه ساعة نطقه بالنذر، فكانت هي الضحية في
النهاية، مما يحقق عنصر «المفارقة».
رابعا-عنصر المفارقة
تقوم العديد من الحكايات الشعبية في تراث العالم على عنصر المفارقة، ومن
أشهرها قصة الأمير المحتوم عليه الموت التي تعد من التراث المصري والتي تحكي عن
ملك اشتاق للذرية بعد أن حرم منها زمنا طويلاً، فأعطته الآلهة بغيته لكنها قدرت
على ذلك المولود أن يموت صغيرا على يد تمساح أو حية أو كلب عقور ورغم ما بذله
الملك من جهد ليحول بين ابنه وبين القدر إلا أنه فشل في ذلك.
أما عن نظائر قصة ابنة يفتاح الجلعادي في تراث الأمم القديمة، فتأتي كلها
بين ثنايا التراث الميثولوجي الإغريقي، وأهم تلم النظائر الإغريقية ثلاث قصص، ربما
لا تتشابه كلية في التفاصيل إلا أنها تشترك معها في بعض العناصر.
-
أول هذه القصص: قصة إيفيجنيا التي تتلخص في تقديم القائد الإغريقي
أجا ممنون ابنته الكبرى قربانا لربة الصيد أرتميس حتى يهدأ غضبها الذي نتج عنه
هبوب رياح قوية كانت سببا في عرقلة رحلة السفن الإغريقية التي كانت ذاهبة لاسترداد
الأميرة الجميلة "هيلين" زوجة ملك الإغريق ميلانوس من الأمير الطروادي
"باريس"، وقد أظهرت إيفيجينيا شجاعة منقطعة النظير فداء لوطنها.
-
ثاني هذه القصص: قصة أندروميدا الفتاة الجميلة التي تتباهى أمها الملكة
كاسيوبيا بجمالها الذي فاق جمال حوريات البحر اللائي كن بنات بوسايدون إله البحر
عند الإغريق الذي أرسل طوفانا بحريا على جوبا، أعقبه بإرسال وحش بحري ضخم من إناث
البحر ليدمر البلدة، وعندما استشارها والد الفتاة الملك سيفيوس نبوءة آمون، أخبرته
النبوءة بأن خلاصه الوحيد هو تقديم ابنته الجميلة أندروميدا للوحش فداء لوطنها،
غير أن مرور البطل الإغريقي الشهير بيرسيوس صدفة بحصانه المجنح قد حال دون ذلك حيث
عمل على إنقاذها من الموت المحقق.
-
ثالث هذه القصص: هي قصة عذراء طروادة التي قدمها والدها لاوميدون الذي كان
ملكا على طروادة قربانا للوحش، جراء وعده الذي أخلفه مع الإلهين أبوللو وبوسايدون،
عندما رفض أن يعطيهما أجرهما بعد أن انتهيا من بناء أسوار طروادة، فما كان منهما
إلا أن عاقباه بإرسال التنين البحري والطاعون على طروادة، غير أنه تصادف مرور
البطل الإغريقي هيراكليس الذي أنقذ الفتاة، مقابل إعطاء لاوميدون خيولا لهيراكليس،
غـيـر أنـه أخـلـف وعـده، فـما كان من هيراكليس إلا أن قتله وقدم الفتاة إلى صديقه
تيلامون.
بمقارنة هذه القصص بقصة يفتاح الجلعادي العبرية يتبين وجود أوجه شبه
واختلاف بينهم.
-
أوجه الشبه:
تمثلت في عذرية الضحية ووجود العنصر الإلهي وعنصر الأب.
-
أوجه الاختلاف:
+ الأخـتـلاف الأول كـان حـول أسباب القربان التي ترواحت بين النذر
(كما في حالة يفتاح) والعقاب (كما في حالة لاوميدون وكاسيوبيا)
+ الاختلاف الثاني تمثل في فكرة الفداء التي اخـتـلـفـت
بين القصص، فبينما قدم القربان فداء للوطن في القصص الإغريقية، كان القربان في قصة
يفتاح عبارة عن شكر للإله يهوه.
+ الاختلاف الثالث كان حول مصير العذراء التي انتهت
بموتها في حالة ابنة يفتاح الجلعادي وحالة إيفجينيا، بينما تم إنقاذها في قصة
عذراء طروادة.
+ الاختلاف الرابع كان حول البطل المنقذ الذي اختفى في
حالة ابنة يفتاح وحالة إيفيجينيا، بينما كان حاضرا في قصة طروادة.
+ الاختلاف الخامس الذي تمثل في العناصر الأسطورية والتي
توافرت في القصص الإغريقية بعض العناصر الأسطورية التي كان أهمها:
-
تداخل عوالم الآلهة وعوالم البشر
-
الأنثروبومورفية التي تجلت في إضفاء الصفات البشرية على الآلهة
-
ظهور الكائنات الأسطورية كالوحش البحري والناريدات (حوريات البحر) وكذلك
الحصان المجنح
-
ظهور البطل الخارق القوة الذي يقهر إرادة الآلهة نفسها
أما القصة العبرية فتخلو تماما من تلك العناصر
الأسطورية، على الرغم من امتلاء قصص التوراة بعنصر الأنثروبومورفية الفجة.
يطرح الكاتب تساؤلا بعد هذه المقارنة التي قدمها بين
القصة العبرية ونظيرتها الإغريقية وهو:
أي هذه القصص كان الأسبق وأيها اقتبس من الآخر؟ يـجـيـب
الـكـاتـب بـعـد أن لـفـت الانـتـبـاه إلى أن هناك نظريتين لتفسير التشابه الملحوظ
بين أساطير الشعوب.
-
النظرية الأولى وهي نظرية أحادية الأصل تقول بأن الأسطورة نشأت مرة واحدة
لدى شعب معين وأن ذلك التشابه راجع إلى الاقتباس والانتشار.
-
النظرية الثانية وهي نظرية تعددية الأصل الـتـي تـقـول بأن الأسـطـورة قـد
نشأت لدى كل شعب على حدة، وأن مرجع هذا التشابه ناتج عن تشابه تركيب العقل البشري.
استنتج الـكـاتـب بـعـد اللـجـوء إلى النظريتين إلى أن
قصة ابنة يفتاح ليست سوى اقتباس عبري من التراث اليوناني القديم الذي كان هو
الأسبق، وأن هذا الاقتباس تم تكييفه على قدر استطاعة مدوني العهد القديم، ليتوافق
مع نسيج العهد القديم القصصي.
الفصل السادس
إيــلــيــا
والـغـربـان
تمهيد :
يعد
إيليا أو إيلياهو التشبي أبرز أنبياء بني إسرائيل في القرن التاسع قبل الميلاد،
وقد عاصر كلا من أحاب بن عمري (869-850 ق.م) سابع ملوك مملكة إسرائيل الشمالية،
وابنه أحزيا (850-849 ق.م) من بعده.
تأتي أهمية إيليا من أنه كان أول نبي بعد عصر المملكة
الموحدة، يتصدى للسلطة السياسية ويطالب بالعدالة الاجتماعية، ويقف في وجه الوثنية
الكنعانية التي اجتاحت المملكة الشمالية، خاصة بعد أن تزوج مـلـكُـها
"أحـاب" مـن الأميرة الفينيقية "إيزابـل"
التي كرست ثمانمائة وخمسين كاهنًا من كهنة بعل لنشر العبادات الكنعانية في أرجاء
ملكة إسرائيل؛ حتى انصرف معظم الشعب الإسرائيلي عن عبادة إلههم «يهوه» (يهوه هو اسم
الله المذكور في التوراة) واتجهوا
للعبادات الكنعانية الوثنية، بحيث صار على إيليا مواجهة السلطة السياسية ممثلة في
أحاب الملك وزوجته ومواجهة السلطة الدينية ممثلة في كهنة بعل وكذلك بنى الأنبياء[3]
وأيضًا مواجهة شعب إسرائيل المنحرف عن عبادة يهوه واستمرار العبادات الأجنبية.
وقـد أثـر إيـلـيـا فـي شـعـب إسـرائـيـل تـأثـيـرا
عميقا بحيث تحول في الذهنية الشعبية الإسرائيلية إلى شخصية بطل شعبي منقذ للأفراد
في أوقات أزماتهم، أكثر من كونه نبيًا يضطلع بمهام النبوة على المستوى الرسمي، لذا
فقد نشأت حوله مجموعة قصصية تراثية ضخمة تعدت حدود العهد القديم، وتغلغلت في
العقيدة الشعبية لليهود الذين لا زالوا يـعـتـقـدون أنه حي، بل اعتبره ملاخي وهو
أحد بني إسرائيل اللاحقين عليه أنه هو إيليا الذي سيعلِن عن مجيء المسيح (ملاخي 4:
5)
أما عن حكايات إيليا نفسها فهي مجموعة من الحكايات
الشعبية التي تأتي في سياق أحداث تاريخية صرفه تتخللها أحيانا بعض القصص القصيرة
التي تتسم بالطابع الشعبي وتحمل بعدا دينيا في نفس الوقت، هذه الأحداث يضمها سفرا
الملوك الأول والثاني مع حكايات إيليا التي تبرز في وسط ذلك السرد التاريخي البحت
بطابعها الشعبي.
وتقع أخبار إيليا التي أوردها سفرا الملوك الأول والثاني
في تسع حكايات منفصلة، اختار الكاتب منها حكاية " إيليا والغربان"،
لوضوح السمات الشعبية فيها بشكل أكبر من القصص الأخرى.
ومضمون القصة أنه بعد أن أبلغ إيليا نبوءة الجفاف للملك،
أمره يهوه أن ينطلق من ذات المكان ويتجه إلى الشرق ويختبئ عند نهر يُدعى «كريث»؛
مقابل الأردن، حيث بوسعه هناك أن يشرب من النهر، أما عن الطعام، فقد أمر يهوه
«الغربان» أن تَعُـول إيليا في ذلك المكان حيث تأتي إليه بالخبز واللحم صباحًا
ومساءً. وظل إيليا على تلك الحال إلى أن جف النهر، فأمره يهوه بالتوجه إلى مكان
آخر في صيدون (صيدا) على الساحل الفينيقي.
رغم أن القصة بهذا الشكل الذي طرحت به في سفر الملوك، هي
قصة بسيطة من الناحية الظاهرية (باستثناء قيام الغربان بإطعام إيليا خبزا ولحما
صباحًا ومساء «بأمر يهوه» وهو العنصر الخارق على المستوى القصصي، العادي على
المستوى الديني، إلا أن أبعادها كما أشار الكاتب إلى ذلك لا تتضح إلا بتحليل عناصر
القصة كل على حدة ثم ربطها ببعضها البعض، وأيضًا بربطها بالسياق العام لمجموعة قصص
إيليا. وتـطـبـيـق مـلامـح وسمات الـقـصـص الـشـعـبـي عـليها حيث أن قصر حجم القصة
واختزالها على هذا النحو لا يمكن أن يقدم شيئا.
يمكن تحليل عناصر القصة على النحو التالي:
أ- ولا خلفية القصة :
قصة مقتضبة، تتسم بالغموض، لعدة أسباب حددها الكاتب في:
+ أن هذه القصة تبتدئ بواو العطف (وقال إيليا التشبي...)
هـذا الـحـرف الـذي يعطف ما بعده على ما قبله، فبالرجوع إلى نهاية الإصحاح الذي
جاء قبل القصة، يظهر أن هناك انفصال ما قبل الواو عن ما بعدها، أي لا تربط بينهما
أية صلة
+ أن الظهور الأول لإيليا في العهد القديم، لم يصحبه
تعريف بالشخص نفسه ولا بميلاده أو مهنته أو السبط الذي ينتمي إليه، فكل ما ذكره
النص عنه أنه من مستوطني مدينة جلعاد، رغم أن ظهوره قد اقترن بإعلان نبوءة تلقاها
"عندما وقف أمام الرب" الأمر الذي يعني أنه لم يكن شخصا عاديا بل هو نبي
من الأنبياء الكبار، وقد كان شأن العهد القديم مع مثل هؤلاء الأنبياء أن يقدم
حيواتهم بالتفصيل.
+ أن نص النبوءة نفسه يشتمل على بعض الغموض، فمضمون
النبوءة أنه لن يكون طَــلّ ولا مطر في هذه السنين التي لم يذكر عددها، إلا عند
قولي، وهنا يختلط الأمر، إذ لا يعرف على وجه التحديد توقف سقوط المطر على قول من؟
هل قول الرب أم قول إيليا...
كل هذه التساؤلات تؤكد على غموض نص النبوءة، علاوة على
غموض أصل إيليا والظهور المفاجئ له وهي كلها تضرب ستارا من الإبهام حول قصة
النبوءة التي تمثل خلفية قصة إيليا والغربان، ولا يبقى واضحا منها سوى أنه سيكون
هناك جفاف.
ب-ثانيا إيليا :
رغم الأهمية القصوى التي تمتع بها إيليا في العقيدة
اليهودية على مستوييها الشعبي والديني إلا أن هناك اضطرابا وتناقضا ملحوظين في رسم
صورته وتحديد هويته وبصفة خاصة في نصوص العهد القديم التي تضمنت سـيـرتَـهُ، ولا
تكاد تتفق المصادر الدينية والشعبية بشأن إيليا إلا في طبيعته التي تقول أنه كان
"خالدا" لم يذق طعم الموت كجميع البشر، في ثاني استثناء للعهد القديم من
قاعدة فناء البشر بعد أخنوخ [4].
-
فيما يتعلق بهوية إيليا:
يـصـل الـكـاتـب خـلال ما تم ذكـره إلـى اسـتـنـتـاج
مفاده أن الصورة الشعبية كانت هي الغالبة على شخصية وهوية إيليا كما رسمتها مجموعة
من حكاياته فباستثناء بعض الغموض الذي قدمت فيه نصوص العهد القديم شخصية إيليا،
يتضح أن إيليا قد جمع في شخصيته بين الساحر والولي أو العبد الصالح وهما شخصيتان
تتمتعان بالبعد الشعبي. وفيما عدا المعجزة التي أظهرها الرب على يد إيليا أثناء
المناظرة الطقوسية بينه وبين كهنة الـبعَـل. عندما هبطت نار من السماء والتهمت
قربان إيليا وكذلك معجزة صعوده إلى السماء، فإن كل أعمال إيليا بعد ذلك تندرج تحت
نوعي: السحر والكرامات حيث يندرج إحياؤه ابن الأرملة وكذلك إنزاله المطر، تحت
طائفة الطقوس السحرية، بينما تندرج مباركته للدقيق والزيت، وطيرانه في الهواء،
ومسيرته من السامرة في شمال فلسطين إلى جبل حوريب بجنوب سيناء لمدة أربعين يوما لم
يتناول خلالها سوى وجبة واحدة (كعكة وكوز ماء) في بداية الرحلة، وكذلك قيامه بشق
مياه نهر الأردن بعباءته، كل هذا يندرج تحت طائفة الكرامات، إذ لا يمكن حسب وجهة
الكتاب أن يُطلق على هذه الأعمال الأخيرة "معجزات" لأنها لم تقترن
بالتحدي ولم تكن لنبي (حسْـبما صورته النصوص في تلك المواضع) وهذان هما شرطا
المعجزة، بينما الكرامة لا تقترن بالتحدي ويجريها الله على يد ولي أو عبد صالح، لا
على نبي. ومن هنا يتبدى البعد الشعبي أيضا في كل أعمال إيليا- فيما عدا
الاستثناءين اللذين سبقت الإشارة إليهما، وبذلك يمكن القول بأن شخصية إيليا -كما
صورتها مجموعة حكاياته-هي شخصية شعبية بدرجة كبيرة، بحيث طغت تلك السمات الشعبية
على شخصيته كنبي. وهذا المفهوم الأخير هو السائد في العقيدة اليهودية.
-
فيما يتعلق بطبيعة إيليا:
من أهم نصوص ما بعد العهد القديم التي حفلت بإيليا
كشخصية مرموقة خالدة، قصص الأجّاداه الواردة في التلمود، والتي تضمنت العديد من
الحكايات التي تشير إلى وجود إيليا بين جموع اليهود في كثير من الأحيان رغم صعوده
إلى السماء، حيث كان يهبط أحيانا من السماء ليزور بيوت المدراش [5]
ويجيب على أسئلة علماء الشريعة ويفسر لهم شكوكهم.
من الحكايات الشعبية التي حكيت عن إيليا، أنه سوف يظهر
عندما يقع اليهود في محنة عظيمة، ويوقظ الآباء الأوائل (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) من
الموت ويستغيث بهم ليفعلوا شيئا من أجل اليهود، فيخبرونه بعدم قدرتهم على إيقاف
حكم الرب، فيوقظ موسى من الموت لينقذ اليهود، فيرسله موسى إلى مردخاي وهو الصديق
الأوحد في ذلك الزمان، فيسرع إليه إيليا ويطلب منه أن يصلي من أجل الشعب، حتى يشفق
الرب على اليهود وينقذهم.
وإيليا في العقيدة الشعبية اليهودية، هو الذي سيصطحب
الحاخامات ليريهم جنة عدن وكذلك أبواب جهنم، ويكشف لهم الأسرار والغيبيات. تعتقد
الجماعات الشعبية اليهودية كذلك أن إيليا يأتي إلى بيوت اليهود ساعة ختان الأطفال
ليحفظ لهم أطفالهم المختونين، وأن كل طفل يجلس على كرسي إيليا يصبح ملاكا للعهد.
وكرسي إيليا هو كرسي مخصص لذلك الرجل الخالد يضعه اليهود له عند إجراء طقس الختان،
ويتركون الباب مواربا حتى يستطيع إيليا أن يدخل منه ليحفظ الطفل المختون ولازال
هذا الطقس يمارس حتى الآن. كذلك يترك اليهود الأرثوذكس الباب مواربا ليلة عيد
الفصح، اعتقادا منهم أن إيليا يأتي إليهم في تلك الليلة. أما الحاخامات فإنهم
يضعون كأسا خامسة أثناء احتفالهم بعيد الفصح، تسمى كأس إيليا، اعتقادا منهم أنه
يشاركهم الشراب ليلة العيد، وعلاوة على ذلك، تعتقد الجماعات الشعبية اليهودية أن
نباح الكلاب بسعادة، هو علامة على حضور إيليا.
وهـكـذا تتواصل حكايات إيليا -بصورته الخالدة- من نصوص
العهد القديم إلى قصص الأجّاداه إلى الحكايات الشعبية الشفاهية التي مرجعها
المعتقد الشعبي اليهودي، بحيث أن إيليا قد صار إيليا بطلا شعبيا يعيش في وجدان
الجماعات الشعبية اليهودية وفي مخيلتهم، ومشاركا لهم في أفراحهم وأعيادهم وأحزانهم
وأزماتهم حتى الآن، رغم مرور ما يقرب من ثلاثين قرنا على صعوده إلى السماء، وما
أشبه إيليا في ذلك بشخصية «الخضر» التي استقرت في العقيدة الشعبية لدى بعض
المسلمين بنفس صورة إيليا مع بعض الاختلاف، وكذلك شخصية "مار جرجس" في
العقيدة الشعبية لدى بعض المسيحيين.
ت-ثالثا : الغربان :
يتبادر إلى ذهن الكاتب من خلال قراءته قصة إيليا
والغربان تساؤل أولي: لماذا اختيرت الغربان بالذات من بين أنواع الطيور والحيوانات
لتتولى إعالة إيليا، على الرغم من أن الظباء والذئاب والماعز هي أشهر الحيوانات
التي تظهر في الأدب الشعبي على أنها تعين البطل؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تأتي من
خلال التعرف على مكانة الغراب ودلالته في المعتقدات الشعبية، فالغربان في معتقدات
الشعوب السامية كما يذكر "العنتيل"، تمتلك قوى غريبة، فهناك من يعتقد أن
الغراب هو رسول الآلهة، وأنه يتصرف أحيانا كدليل ومرشد، ويضيف "العنتيل"
أن بعض المعتقدات الشعبية تربط الغراب بالطقس.
بعد تحليل عناصر قصة إيليا والغربان، يحاول الكاتب تحديد
نوع الأدب الشعبي الذي تنتمي إليه تلك القصة، حيث يمكن القول حسب تعبيره أنها
تنتمي إلى عدة أنواع من الأدب الشعبي، على الرغم من قصرها البالغ، مشيرا إلى أنها
يمكن أن تدرج تحت نوع "الحكاية الشعبية Folktale" مع
الاعتراف باحتوائها على سمات أخرى من أنواع أخرى من الأدب الشعبي، وهذا التصنيف
يستند إلى تعريف الحكاية الشعبية بأنها "اصطلاح فضفاض يستوعب حشدا هائلا من
السرد القصصي الذي تراكم على مر الأجيال، والذي حقق الإنسان بواسطته الكثير من
مواقفه، ورسّب الكثير من معارفه ليس وقفا على جماعة دون أخرى ولا على عصر دون
آخر".
ويضيف الكاتب كذلك إلى أنه يمكن تصنيف حكايات إيليا في
مجموعها تحت نوع أدبي شعبي يصطلح عليه باسم "سير الصالحين".
[1] كلمة تعني وجه الرب.
[2] سيد القمني، الأسطورة والتراث، دار سينا للنشر، القاهرة، 1992م،
ص 77.
[3] (هم جماعة من بني إسرائيل تشبه الدراويش المتجولين
كانوا يعيشون على غذاء مشترك ويلبسون زيا واحدا مميزا لهم، ليسوا بأنبياء إلا أن
بعض نصوص العهد القديم صورتهم كأنبياء).
[4] يتفق جانب كبير من الباحثين والمؤرخين المسلمين على أن أخنوخ المذكور
في التوراة، يتماثل مع شخصية النبي إدريس المذكور في القرآن الكريم.
[5] بيت المدراش، مدرسة كان الحاخامات يعلمون الغلمان اليهود فيها قواعد
الشريعة اليهودية، ويحفظونهم التوراة والتلمود.