أبيــات القصيدة للشاعــر ميخائيل نعيمة:
نحنُ
يا ابني عسكرٌ قدْ تاهَ في قفرٍ سحيقْ
نرغَبُ العودَ ولا نذكر من أينَ الطريقْ
فانتشرنا في جهات القفرِ نستجلي الأثرْ
نسألُ الشّمسَ عن الدّربِ ونستفتي الحجرْ
وسنبقى نفحصُ الآثار من هذا وذاكْ
ريثما
نُدركُ أنّ الدّربَ فينا لا هناكْ
وسنبقى
في انتقالٍ وشقاءٍ وعذابْ
وصعودٍ
وهبوطٍ، وذهابٍ وإيابْ
وسنبقى نهجعُ اللّيلَ وفي الصّبح نفيقْ
ريثما نلقى منانا ريثما نلقى الطّريقْ
قصيدة:
نحنُ يا ابني عسكرٌ قدْ تاهَ في قفرٍ سحيقْ "تحليل فلسفي"
أولا:
نظرة أفقية لأبيات القصيدة
القصيدة
التي بين أيدينا تنتمي إلى نمط من التأملات الشعرية التي تتناول أسئلة وجودية
عميقة حول طبيعة الإنسان ومعنى الحياة ودوره في الكون. يحاول الشاعر بنظرته الفلسفية
في هذه الأبيات أن يصور شعور الإنسان بالتيه وسعيه الحثيث نحو الحقيقة، وهي
موضوعات استأثرت باهتمام الفلاسفة والمفكرين عبر العصور. تحليل هذه القصيدة من
زاوية فلسفية يتطلب استعراض عناصرها ومضامينها ومقارنتها بأفكار فلسفية كبرى.
أ.
التيه والبحث عن الأصل
القصيدة
تبدأ بتوصيف حالة الإنسان بأنه "عسكر قد تاه في قفر سحيق"،
وهي استعارة قوية عن الضياع الوجودي. الإنسان هنا جزء من جماعة (العسكر) ولكنه
يشعر بالعزلة والاغتراب في صحراء الحياة الشاسعة. هذا التيه يعبر عن حالة الإنسان
الوجودية التي تحدث عنها مارتن هايدغر، حيث يرى أن الإنسان يلقى به في هذا العالم
دون أن يمتلك إجابات عن أسئلة الوجود الكبرى. كما يتردد صدى هذه الفكرة في فلسفة
جان بول سارتر، الذي اعتبر أن الإنسان محكوم بالحرية لكنه تائه في غياب مرشد حقيقي
للمعنى.
ب. البحث في الخارج
عن الحقيقة
تُظهر
الأبيات التالية أن الإنسان يستمر في البحث عن الإجابات خارج نفسه: "نسأل الشمس عن الدرب ونستفتي الحجر". هذا السعي يعكس الاعتماد على العالم الخارجي
لفهم الذات ومعنى الوجود. ويمكن مقارنة هذا الموقف بالفلسفة الوضعية التي سادت
القرن التاسع عشر، حيث سعى المفكرون إلى تفسير الكون من خلال العلم والطبيعة. لكن
هذا البحث قد يكون مضللًا أو ناقصًا، إذ أن الإنسان كثيرًا ما يغفل عن أن الإجابات
الحقيقية قد تكون كامنة في ذاته.
ت. اكتشاف الحقيقة في
الداخل
يأتي
التحول المحوري في القصيدة مع البيت: "ريثما ندرك أن الدرب فينا لا هناك" هنا، يكتشف الشاعر أن الإجابة
ليست في الخارج، بل في الداخل. هذا يعكس الفكرة الأساسية في فلسفة سقراط، الذي دعا
إلى "اعرف نفسك" كطريق للحكمة. كذلك، تؤكد الفلسفات الروحية الشرقية،
مثل البوذية والهندوسية، أن الحقيقة والمعرفة موجودة داخل النفس البشرية، ولا يمكن
اكتشافها إلا من خلال التأمل الذاتي والانفصال عن المظاهر الخارجية.
ث. دورة الحياة
ومعاناتها
في
الأبيات اللاحقة، تصف القصيدة الإنسان بأنه يعيش في حالة دائمة من "الانتقال والشقاء والعذاب، والصعود والهبوط". هذه الأوصاف تذكرنا بفكرة العبث عند ألبير كامو،
الذي رأى أن الحياة مليئة بالتكرار واللاجدوى. ورغم ذلك، فإن هذا العبث لا يعني
الاستسلام، بل يدعو الإنسان إلى مواصلة البحث والسعي، حتى وإن لم تكن هناك إجابة
نهائية.
ج.
الموت كمنتهى الطريق
تختتم
القصيدة بالإشارة إلى الموت باعتباره محطة أخيرة: "ريثما
نلقى منانا ريثما نلقى الطريق".
هنا يتجلى تأمل عميق في العلاقة بين
الموت والمعنى، وهو موضوع شغل الفلاسفة منذ العصور القديمة. يرى أفلاطون أن
الفلسفة في جوهرها هي "تأمل في الموت"، حيث يساعد التفكير في النهاية
الحتمية على اكتساب الحكمة. أما في الفلسفة الوجودية، فالموت يُعتبر بداية للإنسان
ليعيش حياة أصيلة، لأن وعيه بفنائه يدفعه إلى تقدير الوقت والوجود.
ح.
الرسالة الفلسفية للقصيدة
القصيدة
تقدم رؤية فلسفية تجمع بين الاغتراب الوجودي للإنسان، وسعيه نحو الحقيقة، والإدراك
التدريجي بأن الحلول الحقيقية تأتي من الداخل. إنها دعوة إلى مواجهة الحياة بكل
تناقضاتها، والتأمل في الذات لاكتشاف الدرب الحقيقي. وبالرغم من إشارة الشاعر إلى
الموت كخاتمة، فإن القصيدة توحي بأن الرحلة هي جوهر الحياة، وليست الوجهة النهائية.
ثانيا:
الأبعاد الفلسفية لعبارتي العسكر والقفر
الشاعر
في قوله "نحن يا ابني عسكر قد تاه في قفر سحيق" يستخدم صورة العسكر كاستعارة رمزية تحمل أبعادًا
فلسفية ووجودية عميقة. هذه الصورة توحي بأن الجماعة البشرية، مثل العسكر، وُجدت في
مهمة محددة، لكنها تاهت في قفر الحياة بدلًا من تحقيق غايتها أو فهمها. تحليل هذه
الصورة يكشف عن عدة مستويات من المعنى.
أ.
المهمة المفقودة والعدو غير المحدد
العسكر
يُفترض أن يكونوا في مهمة منظمة، موجهة ضد عدو واضح. لكن الشاعر يعبر عن حالة
فقدان الهدف والاتجاه، مما يحول العسكر إلى كيان تائه في صحراء شاسعة وغير مأهولة،
أي في "قفر سحيق". هذا يشير إلى أن الإنسان، الذي كان يُفترض أن تكون له
غاية واضحة (سواء روحية أو وجودية)، قد فقد إحساسه بالمهمة وأصبح يحارب ويكافح في
بيئة لا تمنحه إجابات واضحة.
هذه
الفكرة تعكس ما قاله فريدريك نيتشه عن فقدان الإنسان الحديث لبوصلة القيم بعد
"موت الإله"، حيث يُترك الإنسان في عالم مفتوح لكنه فاقد للمعنى، يعيش
صراعًا داخليًا مع عدو غير محدد: الفراغ الوجودي.
ب. القفر كرمز للوجود
العبثي
اختيار
"القفر السحيق" كفضاء يعبر عن الغربة والعبثية التي يجد الإنسان نفسه
فيها. يمكن ربط هذا المعنى بفلسفة ألبير كامو، الذي وصف الحياة بأنها عبثية لأنها
تضع الإنسان في مواجهة لا نهائية مع عالم بلا معنى واضح. في حين العسكر، الذين
يمثلون النظام والغرض والمهمة، يتحولون هنا إلى كيان بلا هدف، مما يعكس تناقضًا
وجوديًا.
ت. فقدان القيادة
الجماعية
العسكر،
عادةً، يتبعون قائداً يوجههم في معركة محددة. لكن في القصيدة، ليس هناك قائد أو
غاية واضحة، مما يعبر عن أزمة القيادة الفكرية أو الروحية التي تعاني منها الجماعة
البشرية. هذا الوضع يشبه ما وصفه جان بول سارتر عندما اعتبر أن الإنسان
"محكوم بالحرية" في غياب أي سلطة خارجية توجهه، مما يتركه في حالة من التيه
الوجودي يصبح إزائها مسؤولًا عن إيجاد طريقه الخاص.
ث. العسكر كمجاز
للجماعة البشرية
العسكر
هنا قد يُفهمون أيضًا كمجاز عن الإنسانية جمعاء، حيث يشير الشاعر إلى أننا كأفراد
جزء من جماعة تبحث عن غاية مشتركة لكنها تضيع بسبب فقدان المعنى أو الارتباط
بالمطلق. هذه الفكرة تتناغم مع رؤية هايدغر عن "الوجود مع الآخرين" (Being-with), حيث يرى أن الإنسان دائمًا في حالة تفاعل مع
الجماعة، لكنه قد يشعر بالضياع إذا لم يكن هناك توافق حول الهدف المشترك.
ج.
العدو الداخلي والخارجي
إذا
كانت هذه الفرقة العسكرية لا تعرف مهمتها فإن كل آخر غيرها سواء كان فردا أم جماعة
يعتبر عدوا ويمكن أن يكون هدفا مشروعا لهذه الوحدة العسكرية وهذا ما أكده جون بول
سارتر في قولته الجحيم هم الآخرون، كما يمكن أيضًا أن نفهم من البيت الشعري أن
العدو ليس خارجيًا فقط، بل هو أيضا داخلي. الإنسان في هذه الحالة لا يقاتل خصمًا
خارجيًا، بل يصارع ضعفه، جهله، وشكوكه. كما يقول ديكارت، الشك هو أول الطريق إلى
الحقيقة، لكن هذا الشك قد يتحول إلى حالة من التيه إذا لم يكن هناك أساس صلب يدعم
البحث.
ح.
دلالة استخدام صورة العسكر
الشاعر
يعبر عن مأزق إنساني عميق: الإنسان وُجد في الحياة كمخلوق مكلف بمهمة (سواء دينية،
روحية، أو معرفية)، لكنه انشغل بعوائق الرحلة وأضاع البوصلة. هذه الصورة تجعل
القارئ يتأمل في طبيعة الرحلة البشرية: هل نحن في صراع مع العدم؟ أم أننا في رحلة
للبحث عن ذاتنا؟
ثالثا:
الدلالات الفلسفية لعبارة الدرب
قولة
الشاعر: "ريثما ندرك أن الدرب فينا لا هناك" تحمل دلالة فلسفية عميقة تُعبر عن تحول جوهري في
فهم الإنسان لذاته وللعالم من حوله. في هذا البيت، يكشف الشاعر عن لحظة إدراك
حاسمة: الحقيقة أو الطريق الذي يبحث عنه الإنسان ليس في العالم الخارجي، وإنما في
داخله. هذا المفهوم يعكس تطورًا في الرحلة الوجودية، حيث ينتقل الإنسان من البحث
في الخارج إلى التأمل في ذاته. لنفصل في هذا البيت من خلال مستوياته الفكرية
والفلسفية.
أ.
الإدراك كشرط أساسي
الإدراك
في هذه القولة هو لحظة الوعي والتبصر التي يصل إليها الإنسان بعد رحلة طويلة من
البحث. هذا يتناغم مع مقولة ديكارت:
"أنا أفكر، إذن أنا
موجود"، التي تشير إلى أن الذات المفكرة هي مركز الحقيقة. فالإدراك هنا ليس
مجرد فهم عقلي، بل هو تحول وجودي يجعل الإنسان يكتشف أن ما يبحث عنه موجود داخله،
وليس في العوامل الخارجية.
ب. الدرب كرمز للمعنى
"الدرب" في النص هو رمز للحقيقة أو الغاية
النهائية التي يسعى الإنسان إليها. الشاعر يشير إلى أن هذا الدرب ليس موجودًا في
العالم المادي أو في الأشياء الخارجية التي نسائلها عن المعنى (كما في الأبيات السابقة:
"نسأل الشمس عن الدرب ونستفتي الحجر")، بل هو طريق داخلي يرتبط بالذات.
هذا المفهوم يعكس فكرة سقراط الشهيرة: "اعرف نفسك"، التي تعبر عن أن
الطريق إلى الحكمة يبدأ من التأمل في الذات لا في العالم الخارجي.
ت. الداخل والخارج:
تحولات الفهم
في
هذا البيت، يتضح أن الإنسان ينتقل من مرحلة الاعتماد على الخارج لفهم ذاته إلى
إدراك أن الحقيقة تكمن داخله. هذا الانتقال يشبه ما تحدث عنه إيمانويل كانط في
فلسفته النقدية، حيث يرى أن المعرفة لا تأتي من العالم الخارجي فحسب، بل تعتمد على
قدرات الإنسان الداخلية في فهم العالم. "الدرب فينا" يعني أن الحقيقة
ليست مسألة اكتشاف شيء خارجي، بل هي عملية بناء ذاتي لفهم ما نحن عليه.
ث. العلاقة بالتيه
الوجودي
هذا
البيت يمثل نقطة التحول من التيه إلى الإدراك. في الفلسفة الوجودية، تحدث جان بول
سارتر عن أن الإنسان مسؤول عن خلق معناه الخاص في حياة لا تقدم له إجابات جاهزة.
الإدراك بأن "الدرب فينا" يعكس لحظة الوعي بهذه المسؤولية، إذ يتوقف
الإنسان عن الاعتماد على العوامل الخارجية ليوجه بحثه نحو الداخل.
ج.
التأمل في الداخل: البُعد الروحي
التركيز
على الداخل كمنبع للحقيقة يحمل بُعدًا روحيًا يتماشى مع الفكر الشرقي، خاصة في
البوذية والهندوسية. هذه الفلسفات تعتبر أن الحقيقة الكبرى، أو التنوير، لا يمكن
العثور عليهما إلا من خلال رحلة داخلية تأملية. في هذا السياق، "الدرب
فينا" يشير إلى أن كل إنسان يحمل داخله القدرة على إيجاد الحقيقة، بشرط أن
يتأمل في أعماقه ويتجاوز مظاهر العالم الخارجي.
ح.
الوحدة والحرية
الإدراك
بأن "الدرب فينا" قد يحمل أيضًا إحساسًا عميقًا بالوحدة. فحين يكتشف
الإنسان أن الحل لا يكمن في الخارج، يدرك أنه وحيد في رحلة البحث عن المعنى. ومع
ذلك، فإن هذا الإدراك يجلب معه الحرية، كما قال نيتشه: "من يملك السبب الذي يعيش
لأجله، يستطيع تحمل العيش بأي طريقة". عندما يدرك الإنسان أن الإجابات في
داخله، يصبح حرًا من القيود الخارجية، ومسؤولًا عن صياغة معناه الخاص.
خ.
الرسالة الفلسفية في هذا البيت
الشاعر، من خلال هذا البيت، ينقل رسالة فلسفية عميقة: البحث عن المعنى يبدأ وينتهي في الداخل. قد يطول البحث في الخارج، وقد تُبذل الجهود في استقصاء الظواهر المادية، لكن الحقيقة تتطلب العودة إلى الذات. هذه الفكرة ليست مجرد دعوة للتأمل، بل هي إعلان عن ثورة فكرية وجودية: الإنسان وحده مسؤول عن خلق معناه وفهمه لطريقه.
القصيدة مسموعة: