أولا: عرض لأبرز محاور كتاب "فلسفة الفوضى" لسلافوي جيجيك
كتاب
"فلسفة الفوضى" للفيلسوف
السلوفيني سلافوي جيجيك هو عمل يتناول القضايا المعاصرة عبر عدسة الفكر النقدي
والتحليل الثقافي. يُركّز الكاتب على مفهوم "الفوضى" باعتبارها حالة
مركزية لفهم العالم الحديث، سواء على المستوى السياسي، الاقتصادي، أو الثقافي، حيث
ينطلق من الفلسفة الماركسية، التحليل النفسي اللاكاني، والنقد الثقافي لتفكيك
الظواهر المعقدة التي تتسم بها مجتمعات اليوم.
أ.
الفوضى كحالة مركزية في العصر الحديث
يُقدّم
الكاتب الفوضى كعنصر ملازم للحداثة المتأخرة. فالأنظمة السياسية والاقتصادية التي
كانت تُعتبر ثابتة أصبحت غير مستقرة بسبب الأزمات المتكررة، مثل الأزمات المالية
والتغيرات المناخية، حيث يرى أن العالم يعاني من "فوضى مُنظّمة"، حيث
يبدو كل شيء ظاهريًا في حالة نظام، بينما الواقع مليء بالانهيارات، وأوضح مثال على
ذلك هو الأزمة المالية العالمية في 2008، حيث كشفت السياسات النيوليبرالية عن
هشاشة النظام الاقتصادي العالمي رغم ظاهره المستقر.
ب. نقد الرأسمالية
وارتباطها بالفوضى
ينتقد
الكاتب النظام الرأسمالي بشدة، موضحًا أن الرأسمالية هي المحرك الرئيسي للفوضى
العالمية. يُجادل بأن السعي اللامحدود نحو الربح يؤدي إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية
تهدد استقرار المجتمعات. و لا يقتصر على ذلك فحسب بل إن الرأسمالية، تُحوّل
الأزمات إلى "سلع" تُستغل لأغراض اقتصادية وسياسية ولهذا نجد مصطلح مثل
"تجار الأزمات" يتداول كثيرا في الآونة الأخيرة ومثال ذلك تحول الكوارث
الطبيعية، مثل الأعاصير والفيضانات، إلى فرص اقتصادية للشركات التي تُقدم حلول
إعادة الإعمار، ومثلها أزمة المناخ العالمية يتم التعامل معها كفرصة لتطوير سوق
جديدة لمنتجات "خضراء" بدلًا من مواجهة جذور المشكلة.
ت. الفوضى في
السياسة: الشعبوية والسلطوية
يرى
الكاتب أن صعود الشعبوية والأنظمة السلطوية هو نتاج الفوضى التي خلقتها الليبرالية
المعاصرة. عندما تفقد الأنظمة الديمقراطية قدرتها على تلبية حاجات الشعوب، تتجه
الجماهير إلى قادة شعبويين يعدون بإعادة النظام والاستقرار.
يضرب الكاتب المثال:
-
بصعود دونالد ترامب في الولايات المتحدة مثّل
ردة فعل على الإحساس بالفوضى لدى الطبقات المهمشة.
-
وفي أوروبا، نمو الأحزاب اليمينية المتطرفة
يُظهر كيف أن الفوضى الاقتصادية والسياسية تؤدي إلى خطاب قومي مُتطرف يَعِد بعودة
"الأمان" و"الهوية".
وبالتالي
ويؤكد أن هذه الحركات الشعبوية لا تُقدّم حلولًا حقيقية للفوضى بقدر ما تُكرّسها
عبر سياسات سطحية ووعود زائفة.
ث. الأيديولوجيا
والفوضى: عالم "ما بعد الحقيقة"
يناقش
الكاتب مفهوم الأيديولوجيا في سياق عالم يتسم بما يُسمى "ما بعد
الحقيقة"، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والوهم. الأيديولوجيا الحديثة لا
تفرض نفسها بشكل مباشر، بل تُقدّم نفسها كحقيقة "طبيعية" لا جدال فيها،
مثال على ذلك الطريقة التي تُستخدم بها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي
لتوجيه الرأي العام. حيث يشير إلى أن
الأخبار الزائفة تخلق بيئة من الفوضى المعرفية، حيث يجد الأفراد صعوبة في التمييز
بين الحقيقة والكذب. كما أن الهيمنة الثقافية لكبرى شركات
التكنولوجية مثل "فيسبوك" و"غوغل" تُعيد تشكيل وعي الأفراد
وتُساهم في خلق "واقع بديل" يخدم مصالح الرأسمالية.
ج.
الثقافة والفوضى : الاستهلاك والترفيه
يرى
الكاتب أن النظام الرأسمالي لم يكتفِ بالسيطرة على الاقتصاد والسياسة، بل امتد
أيضًا إلى الثقافة، مستغلاً حتى الفوضى وتحويلها إلى مصدر للتسلية والاستهلاك، ويظهر
هذا الأمر بشكل واضح في الأعمال الثقافية والأدبية من خلال الرواية، ثم يأتي بعدها
دور الإعلام في إعادة إنتاج هذه الأعمال على شكل أفلام سينمائية مبهرة أو مسلسلات
أو وثائقيات أو ألعاب تسلية تقدم الفوضى كشيء "مسلٍ" بدلًا من معالجتها
كقضية خطيرة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الأفلام الهوليوودية التي تُصوّر الكوارث
الطبيعية، أفلام الزومبي والفيروسات الفتاكة أو الحروب كأحداث مثيرة ومسلية: أفلام
مثل 2012
وAfter Tomorrow The
Day ، الأمر الذي يُخفف من واقعيتها المأساوية، وفي نفس السياق يتم استغلال
صور المآسي الإنسانية في وسائل الإعلام لجذب الانتباه والربح، كما يحدث في تغطية
الحروب أو الأزمات الإنسانية. وبالتالي فإن هذه الطريقة
في التعاطي مع الثقافة تجعل الأفراد "يتعايشون" مع الفوضى بدلًا من
مواجهتها، وهذا بدوره يُكرّس حالة من السلبية واللامبالاة.
ح.
التحليل النفسي والفوضى: الإنسان بين الرغبة
والخوف
من
خلال توظيفه للتحليل النفسي عند جاك لاكان، يُحلل الكاتب الفوضى باعتبارها
انعكاسًا لرغبات البشر المكبوتة وخوفهم من المجهول. الإنسان الحديث، رغم توفر
وسائل الراحة، يعيش حالة قلق وجودي مستمرة، من الأمثلة على ذلك: - ظاهرة القلق
الجماعي حول المستقبل، وتحول هذا القلق الى أمراض توتر واكتئاب تقض مضاجع الناس
لأسباب كثيرة منها كما أشرنا سابقا التغير المناخي أو التطور التكنولوجي وكل ما
يُهدد الوجود البشري من الأساس.
- صعود
الهوس بـ"نظريات المؤامرة"، حيث يسعى الأفراد إلى تفسير الفوضى من خلال
"أعداء متخيلين" لتجنب مواجهة الحقائق المعقدة.
خ.
كيف نواجه الفوضى؟
في
ختام تحليله، يُقدّم جيجيك دعوة لتجاوز حالة اللامبالاة والاستسلام التي تفرضها
الفوضى. يرى أن الحل يبدأ بالاعتراف بأن الفوضى ليست مجرد أزمة خارجية، بل هي جزء
من النظام الذي نعيشه. حيث يُشدّد على ضرورة إعادة التفكير في
السياسات الاقتصادية والاجتماعية بعيدًا عن حلول "المسكنات" التي
تُقدّمها الرأسمالية. ومن الحلول المقترحة لتجاوز الفوضى التي
يتحدث عنها الكاتب: - تبنّي سياسات اقتصادية قائمة على العدالة الاجتماعية بدلًا
من التركيز على النمو الاقتصادي فقط.
-تعزيز
دور المجتمع المدني في مواجهة الشعبوية والسلطوية من خلال نشر الوعي النقدي.
ثانيا:
قراءة نقدية لكتاب فلسفة الفوضى لسلافوي جيجيك
يُعدّ
كتاب فلسفة الفوضى للفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك محاولة جريئة لتحليل الأزمات المعاصرة
من خلال عدسة فلسفية عميقة، تجمع بين الفكر الماركسي، التحليل النفسي اللاكاني
والنقد الثقافي. يضع جيجيك الفوضى كحالة مركزية لفهم واقع العالم الحديث في ظل
الرأسمالية المتأخرة وصعود الشعبوية، مع إضاءات على الاقتصاد، الثقافة، والسياسة.
لكن ماذا عن مدى قوة حججه بالمقارنة مع أعمال فلسفية أخرى؟
أ.
الفوضى بين جيجيك وأنتوني جيدنز: النظام والفوضى
ينطلق
جيجيك من فكرة أن الفوضى هي جزء من النظام العالمي القائم. يرى أن الرأسمالية
تسوّق الأزمات كفرص للربح الاقتصادي والسيطرة السياسية، وهو ما يظهر في استغلال
الكوارث الطبيعية والأزمات المالية. هذه الرؤية تتلاقى مع تحليل عالم الاجتماع
أنتوني جيدنز في كتابه الحداثة وما بعد الحداثة، الذي يرى أن المخاطر في العصر
الحديث هي "مخاطر مُنتجة" بفعل الأنظمة الاقتصادية والتقنية. ومع ذلك،
يختلف جيجيك في طرحه، حيث يركز على نقده للرأسمالية بشكل حاد دون اقتراح بدائل
عملية مباشرة، بينما يقدم جيدنز رؤى أكثر توازنًا حول كيفية التكيف مع المخاطر دون
اللجوء إلى خطاب الفوضى المفرطة.
ب. صعود الشعبوية:
جيجيك في مقابل ياشا مونك
في
تحليل ظاهرة الشعبوية، يتفق جيجيك مع ياشا مونك، مؤلف كتاب الشعب مقابل الديمقراطية،
على أن صعود الحركات الشعبوية هو نتاج فشل الليبرالية المعاصرة في تلبية تطلعات
الشعوب. يرى جيجيك أن الفوضى السياسية والاقتصادية تدفع الجماهير إلى التمسك بحلول
سطحية وقادة شعبويين يعدون بإعادة النظام، مثل صعود دونالد ترامب واليمين المتطرف
في أوروبا. لكن مونك يقدم نقدًا أكثر شمولية لهذه الظاهرة، مشيرًا إلى أن الشعبوية
ليست فقط نتيجة "الفوضى"، بل هي تفاعل مع انعدام المساواة والفساد
السياسي. بينما يتبنى جيجيك نبرة أكثر تشاؤمية، يُركّز مونك على أهمية إعادة بناء
الثقة في المؤسسات الديمقراطية، ما يجعل طرحه أكثر واقعية وملاءمة للحلول.
ت. الأيديولوجيا
و"ما بعد الحقيقة": مقارنة مع هابرماس
يشير
جيجيك إلى أن الأيديولوجيا الحديثة تعمل بشكل خفي، حيث تُقدّم نفسها كحقيقة طبيعية
لا جدال فيها. يتماشى هذا الطرح مع ما ناقشه يورغن هابرماس في كتابه الخطاب
الفلسفي للحداثة، والذي ينتقد "تشظي الحقيقة" في العالم الحديث. يرى
هابرماس أن الإعلام ووسائل الاتصال تخلق حالة من التشويش على العقل الجمعي، وهو ما
يصفه جيجيك بدقة في حديثه عن "الفوضى المعرفية" الناجمة عن الأخبار
الزائفة والهيمنة التكنولوجية للشركات الكبرى. لكن هابرماس يضع رهانًا أكبر على
"العقل التواصلي" كوسيلة لاستعادة الحقيقة، بينما يتبنى جيجيك موقفًا
أكثر رمادية، يركز على نقد الواقع دون تقديم مسارات للخروج من مأزق ما بعد الحقيقة.
ث. الثقافة كمنتج
للرأسمالية: جيجيك مقابل أدورنو وهوركهايمر
في
تناول جيجيك لمسألة الثقافة والاستهلاك، يظهر تأثره الواضح بمدرسة فرانكفورت
النقدية، خاصة في طرح أدورنو وهوركهايمر في جدل التنوير. كلاهما يرى
أن الرأسمالية تُحوّل الثقافة إلى سلعة، ما يُفرغها من قيمتها النقدية ويجعل
الأفراد أسرى لنمط استهلاكي يكرس الفوضى. جيجيك يُعيد طرح هذه الأفكار في سياق
حديث من خلال أمثلة من الثقافة الشعبية، مثل الأفلام الهوليوودية وتغطية الأزمات
إعلاميًا. ومع ذلك، قد يُنتقد جيجيك لعدم تقديم منظور عملي لمواجهة هذه الهيمنة
الثقافية، عكس مدرسة فرانكفورت التي دعت إلى ثورة ثقافية وفكرية كحل للخروج من "فوضى"
العقلانية الأداتية.
ج.
نقد الحلول الغائبة: الرؤية التشاؤمية
رغم
عمق تحليلات جيجيك وتميزه في قراءة الواقع العالمي من زوايا متعددة، يواجه الكتاب
انتقادات لافتقاره إلى الحلول العملية. التركيز على تفكيك النظام الرأسمالي وفضح
تناقضاته لا يكفي وحده، بل يُثير تساؤلات حول البديل الممكن. في المقابل، نجد
أعمالًا مثل كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين لتوماس بيكيتي تُقدّم حلولًا
ملموسة لمعالجة انعدام المساواة الاقتصادية، كالضرائب التصاعدية وإعادة توزيع
الثروة. غياب هذا الطابع العملي يُقلل من تأثير فلسفة الفوضى كأداة لتغيير الواقع.
ح.
فلسفة الفوضى بين النقد والرهان
يُقدّم
الكاتب سلافوي جيجيك في كتابه فلسفة الفوضى قراءة نقدية
جريئة للعالم المعاصر، تستدعي من القارئ إرجاع
البصر في مفاهيم النظام والفوضى، حيث يتفوق في عمق تحليلاته وقراءته للأزمات الراهنة،
غير أنه يبقى عالقًا في إطار النقد دون الخوض في تقديم حلول ممكنة و بنّاءة، ويتجلى
هذا الأمر عند مقارنته بأعمال مثل الشعب مقابل الديمقراطية أو رأس المال في القرن
الحادي والعشرين، حيث يظهر أكثر جرأة فلسفية، لكنه أقل قابلية للترجمة إلى حلول
عملية، وبالتالي يبقى الكتاب عمل فلسفي قيّم لكل من يسعى لفهم ظاهرة الفوضى في
عالم معقد، غير أن القارئ الباحث عن حلول وبدائل ملموسة قد يجد ضالته في أعمال فكرية
أخرى أكثر واقعية.